مع توقيع رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، الإثنين الماضي، اتفاقاً لتشكيل حكومة أقلية بدعم مشروط من الحزب "الديمقراطي الوحدوي" بزعامة أرلين فوستر، بوصفه التنظيم الأكبر في إيرلندا الشمالية، يُبرهن زعماء حزب "المحافظين"، مجدداً، على تمسكهم بالحكم بأي ثمن، حتى ولو أدى ذلك إلى زعزعة الاستقرار السياسي في بريطانيا. وقد بدأ مسلسل استخدام حزب "المحافظين" للأوراق السياسية في سبيل البقاء بالحكم، في عام 2010، على حساب أي اعتبارات أو مصالح وطنية، عندما فاز زعيم الحزب السابق، ديفيد كاميرون، بالانتخابات العامة آنذاك، من دون الحصول على أغلبية برلمانية تمكنه من الحكم، فلجأ إلى تشكيل حكومة مع الحزب "الليبرالي الديمقراطي"، وهي حكومة الائتلاف الثانية التي عرفها الحكم في بريطانيا بعد حكومة الائتلاف التي شكلها الزعيم وينستون تشرشل عام 1940، واستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبالفعل، بعد أيام قليلة من فوز حزب "المحافظين" في الانتخابات التشريعية عام 2015، قدمت الحكومة الجديدة برئاسة كاميرون مشروع قانون إلى مجلس العموم البرلمان يتضمن آليات الاستفتاء حول بقاء البلاد عضواً في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. وبعد إقراره في البرلمان، أعلن رئيس الوزراء يوم 23 يونيو/حزيران 2016، موعداً لتنظيم الاستفتاء. وبعد تصويت 52 بالمائة من البريطانيين لصالح الخروج من أوروبا، قدم كاميرون استقالته، وبدأ حكم جديد لـ"المحافظين" بقيادة تيريزا ماي.
وتصدَّر مستقبل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ملفات رئيسة وزراء بريطانيا، وزعيمة حزب "المحافظين" الجديدة. وقد تعاملت ماي مع ملف "بريكست" على أساس ثلاث "لاءات صارمة" كان من بينها أن "لا انتخابات مُبكرة" قبل الاستحقاق الانتخابي العادي في عام 2020. لكن ماي، وبعد عشرة أشهر من توليها رئاسة الحكومة في يوليو/تموز 2016، دعت في إبريل/نيسان الماضي، إلى تنظيم انتخابات عامة مبكرة في يونيو/حزيران الحالي.
وفي الثامن من يونيو/حزيران 2017، جرت رياح الانتخابات بعكس ما تشتهي ماي. وكما خسر كاميرون رهان الاستفتاء العام الماضي، خسرت ماي رهان الانتخابات المبكرة. وبدلاً من تعزيز موقعها الشخصي القيادي، وتعزيز أغلبية حزبها في البرلمان، عادت ماي مكسورة الظهر، مع حكومة أقلية هشة، بعد تراجع عدد نواب حزبها إلى 318، مما فرض عليها وعلى حزبها مراجعة كل حساباتهم من جديد.
وتمثلت آخر حلقات أنانية ماي، و"المحافظين" من خلفها، وحرصهم جميعاً على البقاء في الحكم، في توقيع اتفاق يوم الاثنين الماضي، مع الحزب "الوحدوي الديمقراطي" في إيرلندا الشمالية، وهو الاتفاق الذي أسماه البعض، بـ"زواج المنفعة"، وأسماه آخرون بـ"اتفاق المليار جنيه إسترليني"، في إشارة إلى تعهد ماي بدعم ميزانية حكومة إيرلندا الشمالية، بمبلغ 1.5 مليار جنيه إسترليني. ومثلما غامر كاميرون بمستقبل بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، عندما لعب ورقة الاستفتاء لتحقيق مكاسب انتخابية، تغامر ماي اليوم بالاتفاق مع الحزب "الوحدوي" الإيرلندي للتمسك بالحكم، على الرغم من المخاطر التي ينطوي عليها هذا الاتفاق على مستقبل "اتفاق الجمعة العظيمة"، الذي توافقت عليه الأحزاب في إيرلندا عام 1998، واحتمال عودة التوتر للإقليم، وتجدد النزعة الانفصالية في إيرلندا الشمالية التي عاشت ويلات حرب أهلية بين الكاثوليك القوميين المنادين بضم الإقليم لجمهورية إيرلندا، وخصومهم من البروتستانت المتمسكين بالبقاء ضمن المملكة المتحدة، وهو ما يحذر منه قادة حزب "شين فين" ثاني أكبر أحزاب إيرلندا الشمالية، والجناح السياسي لـ"الجيش الجمهوري الإيرلندي".
كما يرى مراقبون أن اتفاق الاثنين الماضي، بين حكومة ماي وحكومة إقليم إيرلندا الشمالية، إنما يُعبر بوضوح عن أنانية ماي وحزب "المحافظين"، لا سيما أنه يخاطر بمستقبل تماسك وحدة المملكة المتحدة، مع كل ما أثاره من غضب في إقليمي ويلز، واسكتلندا، العضوين في اتحاد المملكة المتحدة، إلى جانب إنكلترا، وإيرلندا الشمالية. ويقول قادة إقليمي ويلز واسكتلندا إن ماي التي تدعو إلى سياسات التقشف، وغالباً ما تتذرع بأنها "لا تملك شجرة تثمر أموالاً"، وتدعوهم إلى تقليص النفقات في أقاليمهم، فتحت خزائن الدولة لشراء البقاء في الحكم بـ1.5 مليار جنيه إسترليني، قدمتها للحزب "الوحدوي" الإيرلندي.