30 يونيو 2016
أنت أستاذ في رام الله
أنت معلم في فلسطين. إذن، أنت على موعد دائم مع مقعد فارغ، يبزغ فجأة في وجهك ووجوه تلاميذك. ذات صباح مدرسي، مقعد لتلميذ خطفت عمره رصاصة صهيونية، لسببين غريبين: لأنه أخطأ ومشى في مرمى الرصاصة، ولأنه فلسطيني ولد على هذه الأرض لأبوين فلسطينيين وأجداد فلسطينيين. مقعد فارغ ضد ابتذال الدروس ورتابة الوصول إلى المدرسة، وبرودة مناهج المدرسة، اللانهائي الذي تخجل من مداه أرقام كتاب الرياضيات المحدودة. مقعد يجلس في طيف طفل كان، هنا، البارحة، يرفع إصبعه لمعلم الرياضيات، وينحني متحمساً على ورقة الامتحان في حصة العلوم، لن يكون في وسعك كمعلم أن تشرح درس التاريخ، من دون أن تتذكّر أن ثمة كتاب تاريخ يجلس في الصف على شكل فراغ كامل وصامت، كتاب للمدن وخرائط البحيرات كلها. أنت معلم في فلسطين. إذن، أنت مضطر لوقف الحصة فجأة، ذات زيارة غريبة لامرأة غريبة تطرق الباب بهدوء. تقف أمام الطلاب، تأكلهم بدموعها، صارخة بصمت فيهم وفيك:
(أنا أمّ هذا الفراغ الذي بينكم، تعالوا إليّ، أحبكم أحبكم).
فيجن في الصف خريف شجر بعيد، وتطير طيور ستائر الصف الممزقة، تطل من الجدران ذاكرة ضحكات العام الدراسي الفائت، وأسرار الأولاد الصغيرة، سرقات المساطر، وضياع الأقلام، والبكاء الهستيري لأن طالباً ذكر اسم أمّ طالب آخر، وغش المتفوقين البسيط الخجول في الامتحان، والتنافس على رئاسة تحرير مجلة الحائط.
أنت معلم في فلسطين. إذن، تهيأ لطابور من تلاميذ صفك المتأخرين، يتعاقبون على طرق الباب، لن يحدث وأن تسألهم: لماذا كل هذا التأخير؟ لن يبادروا هم ليعتذروا لك، أنت تعرف، وهم يعرفون أن ثمة وحوشاً في الطريق، تنهش خطواتهم، وتخيف ظلالهم، وتعتقل أنفاسهم، هم يعرفون، وأنت تعرف أنك وصلت قبلهم بقليل، وربما تتأخر غداً مثلهم، أنت معلم في فلسطين. إذن، لا تتفاجأ بتلميذٍ يدخل مبتسماً مع عكازات، أو ضمادات على الساعد. لا تنهر الصف، حين يضج بالترحاب والحب، ولا تسوي المقاعد حين تتناثر من حماسة التلاميذ. احترم هذه الفوضى الجميلة واخرج قليلاً. دخّن إن شئت في الممر، واترك التلاميذ مع زميلهم الجريح، يلعبون مع الجرح أو مع حكايته.
أنت معلم في فلسطين، توقع في منتصف مسألة الرياضيات الثالثة أن يرن هاتفك الخلوي، مرات عديدة، وأن تسمع من الطرف الآخر صوت صراخٍ بيتي مألوفةٌ نبرته، تتبين من غابته صوت شقيقك، وهو يصيح (آه يا حبيييي .. يا يابا). ستعرف حينها أن ثمة حصة لك من وجع البلاد، فابن شقيقك قضى شهيداً، وهو يرشق الاحتلال بالملل والغضب والتعب. هي خدمة الدم يا معلم فابكِ قليلاً، ثم ابتسم لوهم عدالة تاريخية، ربما تأتي.
أنت معلم في فلسطين. إياك أن تتفاجأ بجندي صهيوني صغير، يصرخ عليك ينعتك بالقرد، طالباً منك، أمام تلاميذك، أن تخلع ملابسك كلها، وأن يصفعك إن رفضت. وإن لم ترفض غالباً، ابتسم للطلاب واهمس لهم كاذباً بعينيك، على الرغم من صراخ الجنود أنك أقوى من إهاناتهم، وأنك غير مهتم أبداً.
أنت معلم في فلسطين، قل لطلابك بصوت عالٍ أن أعلى جبل في فلسطين هو الجرمق، شمال شرق الجليل، وليس تل العاصور في رام الله، كما قررت "أوسلو" الكذابة. وحين يواجهك الطلاب المستغربون بما يقوله المنهاج المدرسي، امسك الصفحة بيدك، ومزقها من جذورها، واطلب من الطلاب أن يفعلوا مثلك، ثم قل لهم اتركوا بقايا التمزيق، في عمق الصفحة : لنجعله شاهداً أجمل وأعدل أنواع الجرائم.
(أنا أمّ هذا الفراغ الذي بينكم، تعالوا إليّ، أحبكم أحبكم).
فيجن في الصف خريف شجر بعيد، وتطير طيور ستائر الصف الممزقة، تطل من الجدران ذاكرة ضحكات العام الدراسي الفائت، وأسرار الأولاد الصغيرة، سرقات المساطر، وضياع الأقلام، والبكاء الهستيري لأن طالباً ذكر اسم أمّ طالب آخر، وغش المتفوقين البسيط الخجول في الامتحان، والتنافس على رئاسة تحرير مجلة الحائط.
أنت معلم في فلسطين. إذن، تهيأ لطابور من تلاميذ صفك المتأخرين، يتعاقبون على طرق الباب، لن يحدث وأن تسألهم: لماذا كل هذا التأخير؟ لن يبادروا هم ليعتذروا لك، أنت تعرف، وهم يعرفون أن ثمة وحوشاً في الطريق، تنهش خطواتهم، وتخيف ظلالهم، وتعتقل أنفاسهم، هم يعرفون، وأنت تعرف أنك وصلت قبلهم بقليل، وربما تتأخر غداً مثلهم، أنت معلم في فلسطين. إذن، لا تتفاجأ بتلميذٍ يدخل مبتسماً مع عكازات، أو ضمادات على الساعد. لا تنهر الصف، حين يضج بالترحاب والحب، ولا تسوي المقاعد حين تتناثر من حماسة التلاميذ. احترم هذه الفوضى الجميلة واخرج قليلاً. دخّن إن شئت في الممر، واترك التلاميذ مع زميلهم الجريح، يلعبون مع الجرح أو مع حكايته.
أنت معلم في فلسطين، توقع في منتصف مسألة الرياضيات الثالثة أن يرن هاتفك الخلوي، مرات عديدة، وأن تسمع من الطرف الآخر صوت صراخٍ بيتي مألوفةٌ نبرته، تتبين من غابته صوت شقيقك، وهو يصيح (آه يا حبيييي .. يا يابا). ستعرف حينها أن ثمة حصة لك من وجع البلاد، فابن شقيقك قضى شهيداً، وهو يرشق الاحتلال بالملل والغضب والتعب. هي خدمة الدم يا معلم فابكِ قليلاً، ثم ابتسم لوهم عدالة تاريخية، ربما تأتي.
أنت معلم في فلسطين. إياك أن تتفاجأ بجندي صهيوني صغير، يصرخ عليك ينعتك بالقرد، طالباً منك، أمام تلاميذك، أن تخلع ملابسك كلها، وأن يصفعك إن رفضت. وإن لم ترفض غالباً، ابتسم للطلاب واهمس لهم كاذباً بعينيك، على الرغم من صراخ الجنود أنك أقوى من إهاناتهم، وأنك غير مهتم أبداً.
أنت معلم في فلسطين، قل لطلابك بصوت عالٍ أن أعلى جبل في فلسطين هو الجرمق، شمال شرق الجليل، وليس تل العاصور في رام الله، كما قررت "أوسلو" الكذابة. وحين يواجهك الطلاب المستغربون بما يقوله المنهاج المدرسي، امسك الصفحة بيدك، ومزقها من جذورها، واطلب من الطلاب أن يفعلوا مثلك، ثم قل لهم اتركوا بقايا التمزيق، في عمق الصفحة : لنجعله شاهداً أجمل وأعدل أنواع الجرائم.