17 فبراير 2024
أنت المقاومة
إن مخاض البشر أجمعين هو الانطلاق في هذه الأرض، والتفاعل الدائم مع كل الموجودات والمكونات قصد الإصلاح أو حتى الإفساد، لكن هذه الحركة لا بد أن تسبقها إرادة للخروج من منطقة الراحة الدائمة، هي منطقة مُغرية وكل ما فيها يستحسنه الإنسان الطبيعي لكنها منطقة الخطر التي تُفقدُ فيها القيمة ويندثر فيها المعنى إذا طال القعود فيها وتعلّقت النفس بها، بكل بساطة وبعيداً عن التعقيد هي منطقة القاعدين والمتخاذلين، هي منطقتنا (العالم العربي) طيلة هذه السنين الطويلة.
حيث إن الكم الهائل من الإحباط الذي نتلقاه يومياً على جميع المستويات يجعلنا نتلذّذ في القعود بما هو ابتعاد عن المسؤولية والفعل لما يقتضيه ذلك من تقدّم فكري ونهوض اجتماعي واقتصادي ونفس منتصرة، وهي شروط نفقدها ولم نبحث من أجل اكتسابها لأن ضمائرنا مبتورة، إذ إن التراجع الذي نعيشه تجاوز مرحلة ضرورة الوعي به ليبلغ مرحلة أشد خطورة وهي مرحلة الوعي بالكارثة دون ردّة فعل أو السعي نحو النجاة وإنقاذ ما تبقى.
إن الوعي بالتأخر متوفّر وحاضر لكن لماذا لا نسعى نحو الإصلاح؟ إن الأمر متعلّق بكيفية صناعة الوعي والآلية من أجل ذلك أي أننا صنعنا وعياً بالتأخر مقابل تقدّم الأمم لكنه وعي مُشوّه لا يحتكم لقاعدتي الإصلاح والبناء إنما وعي أساسه الهدم والخراب الذي ليس بعده إلا نفق مظلم، فقدنا الروح الانتصارية والنفس الكبيرة التي تقاوم، فقدنا كل معاني الثقة ومصادرها بسبب هذا الوعي الذي صنعته نُخبٌ دخلت بيوت الطاعة قبل أن تخرج للناس وأنظمة مستبدة غاشية تسعى نحو التوحّش وهدم الإنسان وسلبه كرامته، الوعي الذي نعيش به اليوم هو وعي الجُبناء الذين باستطاعتهم التغيير ولكنهم هُزموا أمام إرادتهم وأخذتهم جاذبية المكان وسحر الهزيمة والخيانة.
قبل الثورات العربية، كانت الشعوب تترصّد الانتصارات وتبحث عن الأمل في كل التفاصيل لما كانت تمارسه الأنظمة من جرائم في حق شعوبها، ولكن ربما ما أغفلناه إثر كل تلك السنوات هو المادة التي كنا نتلقاها من جميع مصادر المعلومة، الأفيون الذي تبيّن أنه مؤثر حتى في الشرفاء الذين تصدوا لظلم أنظمتهم حيث كان انتصر عليهم الهجوم من أجل بث ثقافة الهزيمة وجعل النصر شيئا شبيها بالمعجزة وهو ما فنّدته الثورات العربية، لكن رغم ذلك لازلنا نرى الانتصار بعيدا ولا نسعى نحوه بقدر ما نتشجّع من أجل ملازمة أمكنتنا والتخوّف من مزيد التقدم، الرخاء بعد الثورات أعمى قلوب الشرفاء وحجب عنهم الحقيقة، فالرهان أصبح شبيها بالغربلة ليتبين الخائن من الشريف. وأصبح التخوين أمرا أيسر درجة من إحقاق الحق وإظهار الأمور على شاكلتها وهو ما رصدته مطابخ الفتنة ومُريدي الهزيمة فاصطنعوا مشهدا وشغّلوا من أجله آلات صناعة الواقع ليبدأ التخوين والتراشق بالتهم بين من كانوا قبل أيام رفاقا، فرّقتهم الفتنة وفرّقهم اليوم الذي أصبح الحق فيه يحتاج تمحيصا وتفكيرا طويلا مع نسف للعاطفة التي سقطت دول على أبوابها، فعُدنا مُجددا لمعركتنا الكبرى ورهاننا وهو كيف ننتصر؟
إن هذه المعركة مستمرة وهذا الهجوم يتقوّى كلما تتّقد الفتنة حيث إن معاركنا الكُبرى أصبحت مع ذواتنا التي لم تعُد تطمح نحو الانتصار بما هو قيمة. وهذا الخطير في الأمر، أي أن مواكبة ركب الحضارة والانخراط فيه يحتاج حصنا وهذا الحصن هو قيمة الإنسان وجوهره، إن المعركة اليوم تزداد توحشا بتطور النانوتكنولوجيا وتقنيات الذرة والذكاء الاصطناعي الذي سيُحدث ثورات حقيقية ستهُز الإنسانية والكون بأكمله، المعركة لم تعد تحتمل وقوفا على سفح الجبل لأن الوقت يمر بسرعة خيالية ومعه تتضاعف المعرفة ويتضاعف التطور وتتضاعف بذلك رهاناتنا كمقاومين.
رهاناتنا لا بد أن تتوجه نحو تثبيت القيمة والمعنى في نفوسنا بما هي طاقة روحية تتجدّد معها النفس كلما تشعر بالغربة والهزيمة، لا بد أن نخرج من حالة الهزيمة إلى حالة التضحية من أجل الانتصار، وهو رهان من أراد أن يكون صانعا للتاريخ ومُصلحا في الأرض ومسؤولا، رهان التحرر والانعتاق والمضي نحو الأفق الممتد يحتاج منا أن نخوض معركتنا بشرف وصبر وأن نُدرك أننا إذا ما تراجعنا أو وهنّا ستختفي آثارنا من هذه الأرض ولن نقف إلا ملعونين.
المعركة اليوم متاحة للشرفاء، وخلالها سيتداعى كل خائن أو متخاذل بالسقوط لأن القضايا العادلة لم تنتصر بالنضال على الطريق، بل انتصرت بمن أفنى عمره في سبيلها وسلك كل السبل من أجل إرساء العدالة وتحقيق النصر، من هذا المعنى ننطلق نحو مفهوم المقاومة كسبيل لتحرير الذات وتحرير الشعوب على حد سواء.
المخاض مفتوح على عدة جبهات والطريق واحد، من يريد الانعتاق والتحرر للشعوب لا بد أن يسعى من أجل ترسيخ قيمته كإنسان حر لا يقبل أن يكون خارج دائرة الفعل في هذا العالم، عندما تنتصر الذوات ستنتصر الشعوب حتما، رهاننا هو المقاومة بما هي إحياء لكل معنى وتجديد لكل نفس تسعى من أجل قضيتها، المقاومة التي تستمد قوتها وروحها من أبنائها هي التي ستصنع عالما في الفيزياء النظرية وفي علوم الكون يتحرّك بطاقة روحية تجعله يدافع عن قضيته بإيمان عميق كما ستصنع مقاومين في كل أنحاء العالم يؤمنون أن التحرر وعد والوعد حق ليكونوا بذلك داخل دائرة الفعل موقنين أن بالإنسان طاقة للتغيير وللفعل الإصلاحي الدائم.