إذا نظرنا إلى علبة حساء "كامبل" التي ظل الفنان الأميركي أندي وارهول (1928-1987) يكررها مرات، فإنها ليست مجرّد صورة لعلبة من الحساء الرخيص وحسب، بل إنها صورة أيضاً للطعام الذي كان متوفراً باستمرار في بيت عائلته الفقيرة. والذي ظل موجوداً في الأسواق لعقود وعقود، قبل الكساد وبعده، وكان وارهول يرى فيه استمرارية لزمن انتهى في عالم لم تعد القيم فيه تمتّ للماضي بصلة، مثلما رأى فيه أيضاً علبة صغيرة من ماضيه الشخصي.
يعود الناقد الفني الأميركي بليك غوبنيك (1963) إلى سيرة حياة الفنان الأميركي في كتاب صدر مؤخراً تحت عنوان "الحياة كفن" عن دار "بنغوين"، وفيها هذا التناول العميق لتناقضات وارهول ولجذريته التي دفعته إلى ثورة البوب آرت. استند غوبنيك في بناء هذه السيرة إلى سنوات من البحث الأرشيفي في دفاتر وارهول الخاصة، وإجراء مقابلات مع أصدقاء وارهول الباقين على قيد الحياة وعشاقه ولكنه التقى أيضاً بـ"أعدائه"، أي أؤلئك الذين يُقصون فنّه من دائرة الإبداع.
هل كان وارهول فناناً سطحياً؟ لطالما تلقى أسئلة مثل هذه، ولطالما كان جوابه: "نعم، أنا فنان ضحل، إذا كنت تريد أن تعرف كل شيء عن آندي وارهول، فما عليك سوى إلقاء نظرة على سطح لوحاتي وأفلامي، أنا هنا. لا يوجد شيء وراء ذلك"، قال وارهول هذه الجملة في حوار مسجل مع الصحافي غوتنبرغ بيرغ (أجراه عام 1967 ونشر وأصبح معروفاً بأشرطة بيرغ)، وذكر أيضاً أنه يلجأ إلى طباعة الشاشة الحريرية لتجنب مشقّة وعناء الرسم، رغم أن من يتأمل عمله يلاحظ تلك الدقة والعناية بالتفاصيل التي تحتاج إلى وقت وجهد طالما حاول أن ينكره، ساخراً من ادعاءات الفنانين ومن نظر النخبة باستعلاء لما هو سائد بين الناس، ومسايراً الآليات المتغيرة في علاقة الاستهلاكي بالفني.
يحضر وارهول في تاريخ الفن الحديث كأحد أكثر الفنانين إشكالية وتأثيراً. جاء فنه بمثابة احتجاج على منطق العالم الجمالي الذي هيمن على الثقافة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، فقدّم "البوب آرت" للعالم محتفياً بديمقراطية الفن كما كان يسميها، بمنتجاتها التافهة والعالم البعيد عن النخبة، وسرعان ما سيصبح شخصية ثقافية مؤثرة في العقود اللاحقة من القرن العشرين، ويصير فنّه مرآة لتقلبات المجتمع وتحولاته.
رفض وارهول هيمنة الفن الأوروبي على الأكاديميا الأميركية، وساهم بقوة في تجفيف التأثر الكبير بفناني القارة العجوز، حيث كانت سنوات الحرب العالمية الثانية مرحلة انتقالية هائلة، وتحوّلت أميركا من واحدة من أكبر الدول الصناعية قبل الكساد والحرب العالمية إلى مجتمع واقتصاد يعتمد ليس فقط على الصناعة بل أيضاً الخدمات والتكنولوجيا وإنفاق المستهلكين. ولم يحدث في أي وقت سابق من التاريخ أن ساهم التسويق والإعلان والمبيعات في تراكم هذه القوة والثروة، وكان وارهول يعي ذلك ويريد أن يمثّل هذا العالم.