أنواء تعصف بـ "الإخوان" في الأردن
تواجه جماعة الإخوان المسلمين في الأردن انحساراً في نفوذها، وتصدعاً في صفوفها، يقترن بضغوط حكومية قانونية مستترة، وبمناخ عربي رسمي مناوئ لهذه الجماعة المحافظة التي تطلق على نفسها، أحياناً، اسم الحركة الإسلامية، فيما يقترن اسمها لدى خبراء إعلام واتصال ومحللي مراكز أبحاث بالإسلام السياسي، مع استبعاد غير مفهوم ومضاد لمنطق البحث للإسلام الشيعي السياسي.
حافظت الجماعة الأردنية، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، على وجودها التنظيمي، وعلى نشاطها السياسي، على الرغم من نيل ذراعها، جبهة العمل الإسلامي، على ترخيص قانوني، وفق قانون الأحزاب. وظلت علاقتها مع الحكومات الأردنية جيدة، حتى توقيع معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية علم 1996، إذ اتخذت موقفاً مناوئاً لها، كما اتخذت موقف المقاطعة للانتخابات البرلمانية، ورفضت المشاركة في الحكومات المشكلة منذ ذلك التاريخ. وأبقت على صلتها بالجماعة المصرية الأم وبحركة حماس. وانضوت في تنسيقية أحزاب "قومية ويسارية" معارضة، حتى قيام الثورة السورية، إذ وقفت غالبية تلك الأحزاب موقفا ممالئاً للنظام في دمشق، أو اتخذت، في أحسن الأحوال، موقفاً رمادياً، فيما وقفت الجماعة مع الثورة في أقرب بلدان الجوار.
في الفترة إياها، واجهت الجماعة تململاً داخلياً، نشأ، على الخصوص، بسب استمرار علاقتها بحماس، وكان "من الطبيعي" أن تواظب الجماعة على هذه الصلة، وهي التي تضع الأمة الإسلامية فوق كل اعتبار، وبخلاف العلاقة مع الحركة الفلسطينية، كان المتململون، وبعضهم يحتل مواقع قيادية في الجماعة، يرغب في إضفاء وجه وطني/ محلي أكثر وضوحاً على الجماعة، بما يتناسب مع منطق قانون الأحزاب، ومع رؤيتهم للوظيفة السياسية الجماعة الأردنية. وشكّل هؤلاء، في ما بعد، مبادرة زمزم، وتم فصلهم أخيراً من الجماعة. فكان أن عمدوا إلى طلب إعادة ترخيص الجماعة بأسمائهم مؤسسين جدداً. وفي واقع الحال، يقع هؤلاء أنفسهم، ومعهم الجهات الرسمية في الأردن، وزارة العمل (؟)، وزارة التنمية السياسية، في تناقضات، فالجماعة مرخصة، في الأساس، جهة دعوية، وها هي الآن تمنح ترخيصاً كجماعة سياسية حزبية، وما كان موضع مؤاخذة قانونية على الجماعة الأم من السلطات، ها هو يتكرر، ويصبح حلالاً مع منح مؤسسين جدد حق الترخيص للجماعة كطرف حزبي جديد. علاوة على ما يبدو من مغالطة بمنح الترخيص لجماعة تحمل الاسم نفسه لجماعة قائمة لم يقع حلّها.
معلوم أن جماعة الإخوان في الأردن حظيت ليس فقط بعلاقة طيبة مع الجهات الرسمية، بل إن هذه الجهات رعتها واحتضنتها، وبوأت أعضاءها مناصب رفيعة، على مدى عقود، في ظل الحرب العربية الباردة، وبمواجهة المد القومي واليساري، وهو ما مكّن الجماعة من التغلغل الاجتماعي، كما في المفاصل البيروقراطية للدولة. في ضوء ذلك، بدت الحدّة التي أبدتها الجماعة في مناهضة اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية مفاجئة للسلطات، خصوصاً أن تلك الفترة، منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، شهدت توثيقا للعلاقة بين جماعة الإخوان والمحور الإيراني ونظام دمشق، إضافة إلى حماس، امتد حتى العام 2011، ما جعل الجماعة في موقع قصي سياسيا وأيديولوجيا عن توجهات الحكم، كما عن قوانين نافذة. واللافت أن الجهات الرسمية لم تعمد، مع ذلك، إلى الطعن بقانونية جماعة الإخوان (كجماعة دعوية تمارس العمل الحزبي)، وارتأت، بدلاً من ذلك، وضع مؤسسات تابعة للإخوان (المركز الإسلامي) تحت الرقابة المالية، وتشجيع التفاعلات الداخلية في الجسم التنظيمي للإخوان. وهو ما حدث لاحقاً، بتكوين تيار حمل، بالإضافة إلى توجهات "إصلاحية" سمة افتراق جغرافي/ شرق أردني في مكونات أغلب قيادته.
التنازع على الشرعية إذ سيكون أحد عناوين الخلاف بين المجموعتين، فإنه سيجرّ معه انقساما سهلا واستقطابا ضاراً تحت عنوان الهوية الوطنية للتنظيم، فيما المآل الأفضل أن تحرص الجماعة الباقية على العمل ضمن ذراعها الحزبي والسياسي (جبهة العمل الإسلامي)، وتتخير الجماعة الجديدة اسماً جديداً لها، يسوغ نشاطها الحزبي، بدل التمسك بمسمى الجماعة الدعوية (الإخوان المسلمون). هذا هو منطق الأمور. لكن، قلما تؤخذ الأمور الحزبية بالمنطق، وإلا لكان أمكن تجديد الجماعة من داخلها منذ نحو عقد على الأقل. علما أن شرعية الجماعة الباقية ستتعرض لضغط رسمي، في ضوء اتهامها من الجماعة الجديدة، بأنها شكلت تنظيماً (سريّاً) داخل التنظيم، مهمته التماثل مع حركة حماس.
ومع الخشية أن تتسرب عناصر إخوانية ترى أن الأمر وصل إلى حالة انسداد، فإن ما يطلق عليها الحركة الإسلامية مرشحة لأن تدفع ثمن جمودها "الثقافي" الذي أقامت عليه أزيد من نصف قرن، بما جعلها حركة محافظة أقرب إلى السلفية، وبما أسهم عملياً إشاعة بيئة فكرية، أدت إلى توليد تيارات سلفية تناهض العداء للمجتمع وللسلطات على حد سواء. فحين يصبح المعيار الديني هو نفسه معيار المواطنة الصالحة، لنا أن نتخيل التداعيات الضارة وجسيمة الضرر بمبدأ المواطنة، وبواقع التعدد الثقافي الذي يسم المجتمعات، فيما احترام هذا التعدد، ومنحه فرص التفتح والتنافس تحت مظلة قوانين متطورة، هو الذي يكفل تقدم المجتمعات ويضمن السلم الأهلي الوطيد.
واقع الأمر أن هذه الجماعة تدير الطرف لكل مستجدات حياة العصر، بما في ذلك التنمية الحزبية الداخلية، وإن كان أعضاؤها يستهلكون المقتنيات العصرية، ويستخدمونها على نطاق واسع. فالمرأة محجوبة في هذا التنظيم، وكما يجدر بها أن تكون في المجتمع! وسبق لأحد القياديين في الجماعة أن اقترح حرمان النساء من الوظيفة العامة، باستثناء تعليم الإناث وتطبيب النساء، لحل مشكلة البطالة. والعداء للثقافة والفنون ثابت وأصيل ومتفق عليه. والحريات الفردية مؤثمة، ولا وجود لها في عُرف الجماعة. والتعليم التلقيني برؤية دينية هو رؤيتها للتعليم. وليست هناك حاجة في أي وقت للمراجعة والتجديد. حتى شعار الجماعة: سيفان متقاطعان يتوسطهما في الأعلى القرآن الكريم وتحتهما كلمة: وأعدّوا.. هذا الشعار لم يطرأ عليه أي تغيير، وكأن الناس ما زالوا في زمن "الفتوحات"، تجربة الأحزاب ذات الجذر الإسلامي في تركيا، على سبيل المثال، وتغير الصيغ الحزبية والخطاب السياسي والأيديولوجي في تلك التجربة، ما أمكن تلك الأحزاب من التقدم، ذلك كله لا يستوقف الجماعة المحافظة، ذات النزعة المتريّفة، والبعيدة عن روح المدن ومجتمعاتها المختلطة.
وأبعد من هذا، يتغذى جمود الجماعة ومحافظتها من جمود فكري عام، يكتنف التيارات الحزبية، فغالبية الأحزاب اليسارية والقومية الأردنية ليست أحسن حالاً، فهي تسترخي وتطرب ذاتياً، بترديد خطاب خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وذلك موضوع يستحق أن يُثار منفرداً، والإشارة إليه هنا هو لمجرد الدعوة إلى الالتفات إلى بقية مكونات المشهد الحزبي.