أن يكون المرء عكازاً
على الرغم من رؤيته الضعيفة، صار يتعرف عليّ على بعد أمتار عدة. لم أكتشف السر، ظننت أنه طوّر حاسة الشم، ولكن أنفه كان يسيل أحياناً بلا توقف، بسبب عملية ما. أما بقية أعضائه فمعظمها توقف عن العمل. كنا نضحك عندما يتوقف على الدرج مشيراً إلى رأسه (الشيء الوحيد الذي يعمل).
سجائر السيدرز، القهوة، الغرفة الصغيرة، النافذة، ضجيج ورشات البناء، وساعات من الإصغاء. فلا أحد يريد أن يصرخ بوجه الفيلسوف. أخبرني يومها أنني أَسمع فصار يحدثني بالفرنسية، عن نظريته، عن الفلاسفة، ولكنه أصرّ أن عليّ الكتابة بلغتي الأم.
تحولت كتاباتي لمئات الصفحات. أكبِّرها، فيقرأها مسلطاً الضوء ومستخدماً المكبرة. أما في الفحوصات فكنا ندخن السيدرز ونشرب القهوة، وعلى الدرج يسألني أن أعطي نفسي علامة. يُحكى أنه رفض شهادته. وأنه لم يكن يملك سوى ما أشار إليه على الدرج. وأنا كنت أتساءل كيف لفيلسوف أن يشرب القهوة مع ثلاث ملاعق سُكَّر؟
استمر الأمر على هذا النحو لمدة سنة. إلى أن حان موعد رحيلي. أحالوه للتقاعد، ووعدته بالزيارات. أهديته لوحة، فأوصاني أن أحمل معي كتابه.
وصلني خبر موته بعد أيام عدة. ذهبت للسفارة ثم للتعزية. رقصت تلك الليلة، حملت كتابه وتركت المدينة.