أزعمُ أن تحولاً ما يصعب عليّ تحديده، سوف يطرأ على الرواية العربية. ربما يقع زعمي هذا في باب التنبؤ بمجريات المستقبل، من دون إثباتات تشير إلى ذلك. لكنني، وفقاً لقراءتي مجموعة نصوص روائية تباعاً، ولأسماء كنت أجهل نتاجاتها؛ تولد لديّ ما يشبه "الهجس" بالتحوّل القادم. ولقد كان للنتاج الاستثنائي والمفاجئ في غزارته وجديد أسمائه، خلال السنوات العشر الأخيرة، وقعه المزدوج!
من جهة، بدا واضحاً أنّ حضور جائزة "بوكر" في الحياة الثقافية العربية، وخصوصاً لدى كتّاب وكاتبات الرواية، ومن قبل مختلف الأجيال، أدّى إلى اندفاع غير مسبوق باتجاه كتابتها.. بصرف النظر عن نسبية التجارب التي مرّ بها أصحاب الاندفاع (كتابةً وحياة)، وبالتالي نسبية ما تتحلّى به من مستوى كتابي وقيمة فنية. ولم يكن صعباً ملاحظة التسرّع بالنشر، ومراكمة النصوص للاسم الواحد في فترات زمنية قصيرة فاصلة، ما أثارَ التساؤل عن مدى "النُّضْج": نُضْج المادة قيد التفكّر والإعداد، ونُضْج الكتابة ذاتها بناءً وإعادة نظر ومراجعات! ولم تبخل علينا نصوصٌ كثيرة بتوفير الدليل على صدق تساؤلنا هذا. وبالتالي، كان للنتاج الاستثنائي المفاجئ وقعه السلبيّ - في نسبته الأعلى.
ومن جهة ثانية، وبقدر ما استطعت التوفر على الجديد من غزير النصوص الروائية المتتابعة على نحو يتعذر على المتابع حصره بكامله، كان أن خرجتُ بـ"هاجس" التحوّل. تحوّل ربما يصيب أكثر من جانب في ما اعتدناه في الرواية العربية عموماً، ولدى كتّابها وكاتباتها ممن كُرِّسَت أعمالهم كعلامات تؤشر وتشهد. علامات تؤشر على ما بلغته الرواية، وتشهد، في الوقت نفسه، على الخشية من الدوران حول محاور محدودة باتت تستهلك جملة النصوص المنتجة. وأيضاً، تستنفد الطاقة الإبداعية عند مبدعيها.. اللهم سوى قِلّة خرقت مألوفها وحاولت تخطيه.
إذَن؛ أين يكمن ما أزعم بأنه "تحوّل" سيصيب روايتنا العربية؟
في النقلة الواضحة في كيفية الرؤية/ الرؤيا للعالم، بعيداً - وبعيداً جداً - عن ثوابت الأفكار التي احتضنتها الروايات السابقة، وكانت كأنها "نبراس الهداية" لأكثر من جيل. وهذا، كما أواصل زعمي، يمكن قراءته في النصوص الروائية المكتوبة من أبناء وبنات الجيلين اللاحقين لجيل زمن كارثة حزيران، والحرب الأهلية اللبنانية، وسطوة الاستبداد وتحوّله إلى مفردة من مفردات العيش اليومي. صحيح أنّ العناوين الكبرى لم يصبها أيّ تغيير، غير أنّ أشكال تجلياتها الجديدة، وبحسب المعاينات غير التقليدية لها ومحاسبتها أو مساءلتها، أدّت إلى كتابة روائية مختلفة بمعنىً ما. محاسبات وتساؤلات تنبع من ذات ليست محصنة سوى بتجاربها المحدودة، المنصرفة عن المفاهيم الكبرى، المستندة إلى تجاربها الفردية؛ تلك التجارب الذاهبة في دروبها حتى نهاياتها، والتي غالباً ما تخرج منها بـ"عَبَث" العالم وتهافت "حقائقه".
ليس هذا فقط؛ إذ إننا حين نتحدّث عن جيل جديد لاحق لأكثر من ثلاثة أجيال، فإنما نتحدّث عن "لغة" مغايرة تقارب العالم على نحو أصحابها والطريقة التي تتسلسل عبرها أفكارها، أكثر مما تقاربه على النحو "الإطنابي" الذي يسهل الوقوع عليه في حشد من روايات أجيال سابقة. لغة ليست متغربة عن "الحكي"، بل تُشتقّ منها وتَشقّ بها الرطانات الإنشائية البليدة. تشقّها بـ"وقاحة وخشونة" اليومي كونه متأتيا من الواقع الثقيل، وتغزوها بالسائر السائد من كلمات فرنسية، أو إنكليزية، كونها باتت مفاتيحَ وإيماءاتٍ وجزءاً من القاموس الكوني قيد الاستخدام ساعات النهار.
تلك مجرد إشارات تنبئني بتحوّل قادم، عبر تراكم نصوص كهذه، ترفد السرد الروائي العربي بمناخات ثقافية تخطّت جغرافياتها الصغيرة (الاغتراب، والنفي الطوعي والقسري)، لتكتسب وعياً شكاكاً انتقل من البدهي إلى المتقلقل، وطفق يسائل العالم بلا رحمة، ويسائل نفسه من غير وثوق.
وذاك هو الوقع الإيجابي، كما أراه.
(كاتب وروائي أردني)
اقــرأ أيضاً
من جهة، بدا واضحاً أنّ حضور جائزة "بوكر" في الحياة الثقافية العربية، وخصوصاً لدى كتّاب وكاتبات الرواية، ومن قبل مختلف الأجيال، أدّى إلى اندفاع غير مسبوق باتجاه كتابتها.. بصرف النظر عن نسبية التجارب التي مرّ بها أصحاب الاندفاع (كتابةً وحياة)، وبالتالي نسبية ما تتحلّى به من مستوى كتابي وقيمة فنية. ولم يكن صعباً ملاحظة التسرّع بالنشر، ومراكمة النصوص للاسم الواحد في فترات زمنية قصيرة فاصلة، ما أثارَ التساؤل عن مدى "النُّضْج": نُضْج المادة قيد التفكّر والإعداد، ونُضْج الكتابة ذاتها بناءً وإعادة نظر ومراجعات! ولم تبخل علينا نصوصٌ كثيرة بتوفير الدليل على صدق تساؤلنا هذا. وبالتالي، كان للنتاج الاستثنائي المفاجئ وقعه السلبيّ - في نسبته الأعلى.
ومن جهة ثانية، وبقدر ما استطعت التوفر على الجديد من غزير النصوص الروائية المتتابعة على نحو يتعذر على المتابع حصره بكامله، كان أن خرجتُ بـ"هاجس" التحوّل. تحوّل ربما يصيب أكثر من جانب في ما اعتدناه في الرواية العربية عموماً، ولدى كتّابها وكاتباتها ممن كُرِّسَت أعمالهم كعلامات تؤشر وتشهد. علامات تؤشر على ما بلغته الرواية، وتشهد، في الوقت نفسه، على الخشية من الدوران حول محاور محدودة باتت تستهلك جملة النصوص المنتجة. وأيضاً، تستنفد الطاقة الإبداعية عند مبدعيها.. اللهم سوى قِلّة خرقت مألوفها وحاولت تخطيه.
إذَن؛ أين يكمن ما أزعم بأنه "تحوّل" سيصيب روايتنا العربية؟
في النقلة الواضحة في كيفية الرؤية/ الرؤيا للعالم، بعيداً - وبعيداً جداً - عن ثوابت الأفكار التي احتضنتها الروايات السابقة، وكانت كأنها "نبراس الهداية" لأكثر من جيل. وهذا، كما أواصل زعمي، يمكن قراءته في النصوص الروائية المكتوبة من أبناء وبنات الجيلين اللاحقين لجيل زمن كارثة حزيران، والحرب الأهلية اللبنانية، وسطوة الاستبداد وتحوّله إلى مفردة من مفردات العيش اليومي. صحيح أنّ العناوين الكبرى لم يصبها أيّ تغيير، غير أنّ أشكال تجلياتها الجديدة، وبحسب المعاينات غير التقليدية لها ومحاسبتها أو مساءلتها، أدّت إلى كتابة روائية مختلفة بمعنىً ما. محاسبات وتساؤلات تنبع من ذات ليست محصنة سوى بتجاربها المحدودة، المنصرفة عن المفاهيم الكبرى، المستندة إلى تجاربها الفردية؛ تلك التجارب الذاهبة في دروبها حتى نهاياتها، والتي غالباً ما تخرج منها بـ"عَبَث" العالم وتهافت "حقائقه".
ليس هذا فقط؛ إذ إننا حين نتحدّث عن جيل جديد لاحق لأكثر من ثلاثة أجيال، فإنما نتحدّث عن "لغة" مغايرة تقارب العالم على نحو أصحابها والطريقة التي تتسلسل عبرها أفكارها، أكثر مما تقاربه على النحو "الإطنابي" الذي يسهل الوقوع عليه في حشد من روايات أجيال سابقة. لغة ليست متغربة عن "الحكي"، بل تُشتقّ منها وتَشقّ بها الرطانات الإنشائية البليدة. تشقّها بـ"وقاحة وخشونة" اليومي كونه متأتيا من الواقع الثقيل، وتغزوها بالسائر السائد من كلمات فرنسية، أو إنكليزية، كونها باتت مفاتيحَ وإيماءاتٍ وجزءاً من القاموس الكوني قيد الاستخدام ساعات النهار.
تلك مجرد إشارات تنبئني بتحوّل قادم، عبر تراكم نصوص كهذه، ترفد السرد الروائي العربي بمناخات ثقافية تخطّت جغرافياتها الصغيرة (الاغتراب، والنفي الطوعي والقسري)، لتكتسب وعياً شكاكاً انتقل من البدهي إلى المتقلقل، وطفق يسائل العالم بلا رحمة، ويسائل نفسه من غير وثوق.
وذاك هو الوقع الإيجابي، كما أراه.
(كاتب وروائي أردني)