أهداف سويف: الثورة أهمّ من الرواية أحياناً

09 فبراير 2014
+ الخط -
"في زمن يحتدم فيه صراع يصوّر تارة على أنه بين الشر والخير، وتارة على أنه بين الإسلام والغرب، وتارة على أنه بين الإرهاب وقوى الحضارة، وتارة على أنه بين التطرف والاعتدال، وهو في حقيقة الأمر صراع سياسي ـ اقتصادي تتلوّن فيه اتجاهات استعمارية قديمة بألوان جديدة. والصراع الحقيقي، في ما أرى، لا علاقة له بدين أو حتى بأمة، بل هو صراع في النهاية بين القلّة التي تريد أن تسيطر والهيمنة على أقوات وأفكار وحيوات الناس، والكثرة التي تريد العيش الآمن الكريم".

ربما لو أنك قرأت كتاب "في مواجهة المدافع"، للروائية والأكاديمية المصرية أهداف سويف الآن، دون أن تلتفت إلى تاريخ صدوره، فإنك لن تكتشف أنها كتبت هذا النص عام 2004، قبل عشرة أعوام بالتمام والكمال، وأزعم أنك لن تشك لوهلة أن الوصف المكتوب يصف الوضع القائم في مصر الآن منذ الانقلاب العسكري في 30 يونيو/ حزيران الماضي، وليس مكتوباً لتوصيف حال القضية الفلسطينية في ظل الانتفاضة التي اندلعت في بداية الألفية الثالثة في مواجهة الاستيطان.

ولدت أهداف سويف في القاهرة، وهي الابنة الكبرى لعالم النفس الدكتور مصطفى سويف وأستاذة الأدب الإنكليزي الدكتورة فاطمة موسى، وبالطبع تأثرت أدبياً بوالدتها وتأثرت نفسيا بنظريات والدها، وأصبحت حياتها جزءاً من الخط الأكاديمي الواضح الذي يسير منزلهما وفقه، وهذا ما حكم مسيرتها الدراسية أيضا بدءاً من حصولها على ليسانس الأداب من قسم اللغة الإنكليزية في جامعة القاهرة سنة 1971، ثم حصولها على درجة الماجستير في اللغة الإنكليزية وآدابها من الجامعة الأميركية في القاهرة ثم الدكتوراه في اللغويات من جامعة لانكستر في انكلترا من خلال منحة.

لكن التأثير المباشر في لغتها العربية يتّضح من قراءة كتاباتها، كونها لم تكن لغتها الأولى، حيث عاشت في إنكلترا في الفترة ما بين العام الرابع والعام الثامن من عمرها، بينما كانت والدتها تدرس للدكتوراه بجامعة لندن، وتعلّمت القراءة بالإنكليزية ثم تعلّمت العربية عندما عادت إلى مصر، ولكنها ظلت، على حدّ قولها، تفضل القراءة بالإنكليزية.

ولعلّ هذا كان واضحاً في رواية "خريطة حب" التي كتبت باللغة الإنكليزية وضمّت ما يشبه الحوار الفلسفي الرومانسي العقلاني بين الذات العربية والآخر الغربي، حيث عمدت إلى رصد علاقة الشرق بالغرب بكل مظاهرها المشرقة منها والمظلمة. والرواية التي ترجمت إلى 16 لغة عالمية ورُشّحت للفوز بجائزة "بوكر" البريطانية، تصوّر حياة امرأة إنكليزية تسافر إلى القاهرة عام 1900 وتقع في حب مصري كرّس حياته لخدمة وطنه، وتأتي بعد مئة عام حفيدة نشأت عن علاقتهما إلى القاهرة حيث تعثر في دفاتر يومياتهما على أسرار علاقتهما.

في الرواية الرومانسية الاجتماعية تستعرض أهداف سويف السجالات السياسية والثقافية لتلك الفترة الهامة من تاريخ مصر الحديث، وتلقي الضوء على المناورات والأحداث السياسية بين القصر والحكومة واللورد كرومر والوطنيين المصريين. وهنا تتجلى براعة الكاتبة في الرجوع الى الأرشيفات التاريخية واستنطاقها، ومقدرتها في الطرح والاستعراض لرسم صورة لأجواء تلك الفترة المشحونة من تاريخ مصر. وكأن لسان حالها يقول للقارئ الإنكليزي: لقد كانت هناك قصة أعقد وأكبر من مجرد اختزالها في شعار مساعدة الرجل الأبيض للشعوب المستعمرة.

وليست "خريطة الحب" هي أهم روايات أهداف سويف عن العلاقة بين مصر والغرب كما عايشتها، وإنما هي الأشهر باعتبارها رواية ترجمت إلى العربية، وإن كانت روايتها "في عين الشمس" الصادرة بالإنكليزية عام 1992 ترصد تلك الإشكالية بشكل أكثر تحديداً وواقعية، حتى قال عنها ناشرها البريطاني: "إنها رواية مهمة وشبه معجزة. إنها الرواية الإنكليزية العظمى عن مصر، وفي الوقت نفسه الرواية المصرية العظمى عن إنكلترا، فهي تجمع بين عالمين متناقضين"، لكن الرواية، رغم ذلك، لم تترجم إلى العربية ربما لاحتوائها على كلام صريح عن الجنس الذي لا زال العرب يتعاملون معه باعتباره من التابوهات الأدبية.

تطوّر بطلة رواية "في عين الشمس"، التي سمّتها أهداف سويف "آسيا"، لا يعتمد على "خلع الحجاب" حرفياً أو مجازياً، كما أنها لا تعرِّف نفسها من خلال النضال لا ضد التطرف الإسلامي ولا ضد الإمبريالية الغربية، وإنما على نشأتها في ما تسميه أهداف بـ"البين بين" أو "ما بين المناطق" وهي ملتقى ثقافات وتقاليد كثيرة"، "أن تنشأ مصرياً في ستينيات القرن العشرين، فقد كان ذلك يعني أن تنشأ مسلماً/ مسيحياً/ مصرياً/ عربياً/ أفريقياً/ متوسطياً/ عدم انحيازي/ اشتراكياً/ راضياً برأسمالية محدودة النطاق. وفوق ذلك كله، لو كنت نشأت في مدينة مصرية، لسنحت لك فرصة أن تتكلم الإنكليزية و/أو الفرنسية وأن ترقص على موسيقى ستونز مثلما ترقص على موسيقى عبد الحليم".

تفتّح وعي أهداف سويف السياسي مبكراً من خلال العائلة المنخرطة في متابعة الشأن السياسي ثم قراءتها لكتابات فتحي غانم ونجيب محفوظ، وكان لها موقف بارز من القضية الفلسطينية مبكراً، حيث تفرّغت للكتابة عنها في صحف بينها "الغارديان" البريطانية و"لندن ريفيو أوف بوكس"، قبل أن تبدأ في عام 2000 بتكليف من "الغارديان" رحلة إلى فلسطين لكتابة مقال عن الانتفاضة الفلسطينية، تحوّل لاحقاً إلى كتاب "في مواجهة المدافع".

علاقة أهداف بفلسطين باتت وثيقة في أعوام لاحقة لصدور كتابها "في مواجهة المدافع"، وزادت متانة مع تكرار زياراتها إلى الأراضي المحتلة، ثم توثيق علاقتها بمثقفين وساسة في فلسطين أبرزهم الأكاديمي الراحل إدوارد سعيد والكاتب مريد البرغوثي المقيم في مصر وزوج الروائية الرائعة رضوى عاشور، والذي ترجمت له في عام 2005 روايته "رأيت رام الله" إلى الإنكليزية. لكن هذا الارتباط يظهر في رواياتها وخاصة "خريطة الطريق" من خلال اقتران جد أبطال الجزء الأخير من الرواية بفلسطينية من عائلة الخالدي التي يأتي أقاربها من فلسطين لزيارتها، مقدمين شهاداتهم للقارئ عما يجري هناك من فظائع يرتكبها الإسرائيليون، ومحاولات الصهاينة سرقة الأرض، كما تتعرض الرواية للسلام والتطبيع مع إسرائيل، ويبدو موقف الكاتبة واضحاً من خلال تبني بطلتها لموقف مناوئ ورافض بل ومستهجن له.

وباعتبارها تنتمي إلى أسرة أكاديمية شهيرة لها تاريخها النضالي في مجال الدفاع عن جودة التعليم والمطالبة بتحرر الجامعة، كان لأهداف سويف مكانها قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير في الجمعية الوطنية للتغيير وحركة التاسع من مارس لاستقلال الجامعات، كما كانت بين الداعين للثورة، وإن لم تشهد بنفسها انطلاقتها، حيث كانت في الهند تحضر مهرجاناً أدبياً في مدينة غايبور، غير أنها سرعان ما عادت إلى القاهرة يوم 27 يناير، لتشارك في تظاهرات "جمعة الغضب" في اليوم التالي.

لكن أهداف سويف ترى أن تحوّلها أو تصنيفها باعتبارها ناشطة سياسية أمر يضرّ بها كثيراً كروائية، قائلة في حوار منشور معها: "في الحقيقة، لا أعتقد أن عملي كناشطة يخدم مشروعي الأدبي، لأنه ليس من الضرورة أن يعايش الأديب جميع التجارب التي يعبّر عنها، إلا أنه من المؤكد أن الكتابة الأدبية والاهتمام بالقضايا الإنسانية نابعان من الاهتمام بحياة الآخرين والتماهي معهم. لا أتصوّر أن أجلس في غرفة مغلقة وأزعم أنني أتماهى مع قضايا الآخرين وأشعر بها، ولا أتصوّر أيضاً أن يكون باستطاعتي أن أقوم بشيء عملي ومباشر ولا أقوم به، فلمّا جاءتني فرصة دعوة جريدة «الغارديان» للسفر لكتابة مقالات حول الوضع في فلسطين، اعتبرت أن هذا الأمر واجب وفرصة في آن واحد.

منذ الثورة وحتى الآن تحاول أهداف سويف الدفاع عن الحقوق والحريات وتصرّ على ضرورة تحقيق أهداف الثورة الأساسية: "عيش حرية عدالة اجتماعية" من خلال مقالاتها المنشورة بالعربية والإنكليزية ولقاءاتها التلفزيونية. وإن كان البعض يأخذ عليها وقوفها إلى جوار مقدمات الانقلاب العسكري وانقلابها عليه بعد عصفه، الذي كان متوقعاً، بالحريات والذي طال ابن أختها الناشط علاء عبد الفتاح.

في مقال لها بعنوان: "الثورة ما غلطتش"، نشر أخيراً في صحيفة "الشروق" تعقيباً على مقال سابق لها في "الغارديان"، كتبت: "الثورة ليست فرداً أو جهازاً أو مؤسسة لنقول إنها أخطأت، فالثورة ظاهرة، وطاقة، وطموحات وأفكار ومبادئ. والثورة لم تخطئ بل أُخطئ في حقها. ونرى الاستمرار والتمادي في هذا الغلط في حق الثورة ــ ليس فقط في التنكّر لآليات الاحتجاج ذاتها مثل التظاهر أو مثل اقتحام مقار أمن الدولة، وليس فقط في الاستمرار في قتل وسحل الشباب ــ وإنما في مظاهر الاحتفال المختلفة بالثورة، بدءاً من النصب القميء الذي قذفوا به وسط الصينية في ميدان التحرير، إلى أحاديث وزير الداخلية عن أن الشرطة "في القلب من الثورة"، إلى توزيع الهدايا على الناس واختزال طموحات الشعب في كام بطانية".

وتضيف الكاتبة في المقال نفسه: "الثورة غلط في حقها مَن كانوا محسوبين عليها ولم يقوموا بدورهم. فما هي هذه الأدوار؟ لا أعتقد أننا بحاجة لأن نكرر أن الشرطة، وواجبها أن تحمي الشعب، قاتلته وقتلته إلى أن اضطرت أن تنسحب مهزومة. ولا لأن نعيد أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ــ الذي وعد بحماية الثورة ــ ولو أنه في الحقيقة لا شأن له بالأمور الداخلية. أما الشباب والشعب، فقد جرى العرف على تقريعهم على أنهم لم يتّحدوا ولم تكن لهم قيادة ولا أهداف واضحة ولا برنامج".

لا شك أن علاقة أهداف سويف الأسرية المعقّدة، كونها شقيقة الدكتورة ليلى سويف أحد أبرز مؤسسي حركة التاسع من مارس لاستقلال الجامعات، وزوجة الحقوقي الكبير أحمد سيف وخالة اثنين من شباب الثورة هما علاء عبد الفتاح، المعتقل حالياً، ومنى سيف مؤسسة مجموعة لا للمحاكمات العسكرية، لكن قربها من الأحداث ومشاركتها في الكثير منها صنع لها قناعات مختلفة وجعلها تمتلك رؤية واضحة عما يجري وتنبؤات بالقادم.

في مقالها بعنوان: "حول الدولة والديموقراطية" تقتبس أهداف سويف تعريف عالم الاجتماع الألماني الأشهر ماكس فيبر للدولة باعتبارها "المجموعة من البشر التي تحتكر الاستعمال المشروع للعنف في نطاق جغرافي معيّن".. وتضيف: "على حسب هذا التعريف السائد، فأدوات الدولة في ممارسة العنف المشروع هي القوات المسلحة والشرطة، وهما جزء من الدولة. وفي الأغلب تستعمل الدولة القوات المسلحة في ممارسة العنف المشروع مع مَن هم خارج نطاق الدولة أو مَن لا ينتمون للدولة، وتستعمل الشرطة لنفس الغرض داخل نطاق الدولة".

في مقالها: "الطريق أمامنا"، المنشور بعد أيام من الانقلاب العسكري، كتبت أهداف: "لأن أي إنسان عاقل وأمين يدرك الآن أن لا طريق ولا حل ولا مخرج مما نحن فيه سوى الثورة، أعنى الثورة الحقيقية بما تتطلبه من التغيير الشامل، فالحقيقة واضحة وجلية ولا تحتاج لفهم سياسي عميق، ولا لإيمان بأي أيديولوجية، ولا حتى لتفعيل الخيال. نحن عشنا الحقيقة، ونحتاج فقط أن نصمّم على ألا ننساها، ولا نتجاهلها، ولا نحاول الالتفاف عليها وعلى أنفسنا".

لكن الوضع ملتبس بالفعل لدى الكاتبة المرموقة مثلما هو ملتبس لدى كثيرين في مصر الآن، وبالتالي كان عليها أن تشرح في مهرجان أدنبره الدولي للكتب والفنون 2012 لماذا توقفت عن كتابة الروايات قائلة: "في أوقات الأزمات ينبغي على الرواية أن تنتقل إلى المقعد الخلفي، وإذا كان معظم الناس قانعين بالعيش ضمن حدود معينة وشخصية، فإن إحدى علامات الفنانين هي بالتأكيد العيش خارج جلودهم. إنهم مشبوكون، ويؤذيهم ما يؤذي رفاقهم البشر. كيف يمكنك إذن، إذا كانت مهمتك وموهبتك الحكاية، أن تغيب عن حكاية العالم؟".

في مقال لها بعد أقل من ثلاثة أسابيع من تنحي الرئيس المخلوع مبارك عن الحكم، وبالتحديد في 28 فبراير/ شباط 2011، كتبت في صحيفة "الشروق": "المثل المصري يقول حَرَّص ولاتخَوِّنْش، وعليه فنحن نطلب من الجيش، كتعبير فعلي أولي بسيط عن الموقف والنوايا، أن يسحب عصى التيزر من عناصره، الآن، اليوم، النهاردة، علشان لو مرة تانية احتكوا «احتكاكات غير مقصودة» كما يسميها بـ«أبناء الثورة» كما يسميهم، لا تنتج هذه الاحتكاكات شرارة كهربائية تودي بأمن وسلام هذا البلد الذي حافظت عليه الثورة بكل إخلاص وأناقة".

لكن أهداف سويف الأكاديمية تبدو أكثر واقعية في تحليلها لما جرى ويجري في مصر. في مقال لها بعنوان: "للتاريخ"، كتبت فيه بالعامية الدارجة: "التاريخ ــ ونحن من المفترض أن نكون من أكثر الأمم وعياً بالتاريخ ــ يراقبنا ويتابعنا، وسيحكم علينا. سيقول كلمته في الشعب، وسيقول كلمته في الجيش، وسيقول كلمته في القيادات السياسية.

أما الشعب فصبر لما صبره طال. ولما وجد إنه مش بس بيتسرق، وبيُستغَل، وبيتجوَّع، ويتهزأ، ويتذل، ويُفترى عليه وتتسوّأ سُمعته، بل إنه بيتغرَّب عن شخصيته وعن روحه ــ قام وثار. وكانت عبقريته إنه جسّد في ثورته كل الصفات اللي بيعزَّها في نفسه واللي حاولوا يقتلوها فيه: الإقدام، والشجاعة، والمسالمة، والجدعنة، والتكافل، والدعابة، والمرح، والفهلوة، والصياعة، والحرفية، والإبداع ــ والصَبر برضه. لأنه لسه صابر. بس بطريقته. مش عارفين تفعَّلوا الثورة من فوق؟ إحنا الشعب هنفعَّلها من القواعد: هنشكِّل نقابات، ونطلع في إضرابات، ونغَيَّر قيادات، ونجمع معلومات، ونقدم بلاغات، ونتسلق سفارات، ونألف أغنيات، ونكتب تويتات وبلوجات ومقالات ــ يعني بالعربي كده: مش هنسكت، ومش هنهمد ومش هنسمح للأوضاع ترجع زي ما كانت بأي حال من الحالات.

وأما القيادات السياسية فهي شغالة ــ كالمعتاد ــ حسابات، وتقسيمات، ومغالطات. وقد خذلتنا مرات ومرات، بدءاً من أثناء الثورة وبعدها مباشرة حين عجزت عن إفراز أي تكوين يستطيع أن يتحدث بكلمة واحدة هي كلمة الشعب ــ ووقتها كانت كلمة الشعب واحدة، وواضحة، وقوية ــ إلى كل الجري الذي نراه في المواقف المطلوب فيها الثقل والرصانة (الجري إلى المجلس العسكري، أو إلى تكوين تكتلات ضد بعض) والحرنان أو عدم التواجد أصلاً في المواقف المحتاجة لتحرك وحسم.

دلالات
المساهمون