14 فبراير 2018
أهل القمّة وأهل القاع
قبل ثلاث سنوات، بدأ الربيع العربي، الأمر الذي لم يستطع المثقفون العرب الذين يعيشون في أبراجهم العاج، أو الخبراء الغربيون الذين كانوا يلقون اللوم على سلبية الجماهير، وافتقارها إلى الرغبة الحقيقية لإحداث التغيير والديموقراطية، أن يتوقعوه، فنزل الشعب المصري، بعدما رأى التونسيين يثورون، إلى الشارع، واستطاع في خمسة عشر يوماً فقط إطاحة نظام ديكتاتوري، بدا وكأنه لن يتزعزع أبداً. وما زاد من ذهول العالم هو الطابع السلمي للتظاهرات، على الرغم من وجود شهداء، ولكن، من دون مذابح واسعة النطاق. واليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات على بداية الربيع العربي، بلغ الإحباط والشك مقداراً لا يمكن تخيّله، خصوصاً بعد إطاحة محمد مرسي، أول رئيس منتخب ديموقراطياً، وإقامة نظام استبدادي برعاية الجيش، والقيام بعمليات اعتقال جماعي وتعذيب، بصورة منهجية تدعو إلى القلق والخوف.
بالنظر إلى الأمور على نحو متأنٍ، تطرح أسئلة مثل: ما الطريقة التي لا بد من استخدامها لفهم ما حدث في مصر في بداية عام 2011؟ هل كانت هناك ثورة؟ فالسهولة التي تمت بها إزاحة الرئيس حسني مبارك جعلت بعضهم يعتقدون أن ما حدث محض خيال، لأن مبارك تنحّى ببساطة شديدة، ولأن جزءاً كبيراً من الطبقة الحاكمة أيقن أنه لا بد من التضحية به، للحفاظ على امتيازاتهم، بشكل يدعو إلى التساؤل، فقام الأثرياء ورجال الأعمال وفاسدون كثيرون، يشكلون لبَّ '"الدولة العميقة"، بما في ذلك كبار ضباط الشرطة وكبار المسؤولين، بتقديم استقالاتهم، ما أدى إلى تنحي الديكتاتور المزعج، في محاولة لتجنب ثورة أكبر، والحفاظ على الامتيازات القائمة.
في مصر، لم يكن الانتصار، كما تصور بعضهم، رحيل مبارك، ولكن الانتصار الحقيقي كان هزيمة "الدولة العميقة"، بمعنى إجراء إصلاحات عميقة وجوهرية، تتعلق في المقام الأول بوزارة الداخلية، وكذا الاستجابة لتطلعات المواطنين إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، (لا بد أن نتذكر أهمية الإضرابات العمالية بين 2006 ـ 2009)، وهي التي تتطلّب وجود رؤية اجتماعية في الأجلين، القصير والمتوسط. مع ذلك، كانت قوى المعارضة غير قادرة على وضع خطة واقعية واستراتيجية للسيطرة التدريجية على أجهزة الدولة، باستبعاد المسؤولين الرئيسيين في النظام السابق، أو إعفاء آخرين من مناصبهم، ما ساعد على استمرار أجواء التخبط. إن عدم وجود برنامج محدد، أو هدف وحيد، أو وجود قائد لهذه الثورة، اعتبره بعضهم نقطة قوة، بينما اعتبره آخرون نقطة ضعف.
ما حدث في العالم العربي لا يشبه، بأي حال، أياً من الثورات التي شهدها القرن العشرون، حيث تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد (ولا يزال لا يوجد) أي حزب سياسي، ولا أيديولوجية، في العالم العربي، قادرة على تعبئة الجماهير (كما الحال في روسيا في عام 1917، أو في إيران في 1978 ـ 1979) من أجل القضاء على جهاز الدولة القديم، وبناء الجديد. هذه الملاحظة التي سوف تسعد بعضهم، وتحزن آخرين، لن تغيّر من مجريات الأمور في شيء على مدار السنوات المقبلة. فالثورات العربية لم تعد فقط لا تشبه أي ثورة قبلها، بل وواكب ذلك تعرضها الدائم لانتكاسات موجعة، وإحرازها اليسير من أهدافها، ما جعلها تشبه عرائس الاستعراض الشهير "الليلة الكبيرة"، مجرد فوضى عارمة، بلا هدف محدد.
في هذه الأثناء، أجرت جماعة الإخوان المسلمين المصرية، والتي شاركت في ثورة يناير 2011 وضحّت بأعضاء كثيرين فيها، مفاوضات من أجل التوصل إلى إيجاد حل وسط مع النظام السابق، والمتمثل في كل من الجيش والشرطة، لكن الأمر تحول ملهاة مأساوية، حيث إن وزير الداخلية، الذي عيّنه مرسي، كان السفاح الذي قتل "الإخوان" وقمعهم، فدفعوا، في النهاية، نتيجة أخطائهم وتعصبهم الأعمى لفكرتهم بأنهم قادرون على إعادة تأهيل النظام السابق، في عيون مصريين عديدين، الأمر الذي أدى، في النهاية، إلى أن ترى الجماهير المصرية تدخل الجيش في أمور الحكم أمراً مقبولاً.
وعلى الرغم من استفادة الجيش من هذا الدعم في البداية، وعلى الرغم من القمع (أو بسببه)، فإن الحكومة المصرية الجديدة، وهي، باختصار، تمثل القيادة العليا للجيش، سيكون من الصعب عليها توطيد أسس حكمها، خصوصاً في المجال الاقتصادي والاجتماعي (فمصر باقية كدولة إلى الآن، بفضل المساعدات التي تتلقاها من السعودية ودول الخليج)، أو في ما يخص الحريات، فالسلطة لا تستجيب لمطالب ثورة يناير 2011.
في كتابه الشهير: "أمراض الطفولة اليسارية" (ليفتيسم)، الصادر عام 1920، عرّف فلاديمير لينين الحالة الثورية، على أنها: "فقط عندما يكون الذين في القاع قد أصبحوا لا يريدون المزيد، والذين في القمة لم يعد في مقدورهم الاستمرار في العيش بالطريقة القديمة"، فقط حينها يمكن أن تنتصر الثورة. وطبقاً لهذه المعايير، فإن الوضع في مصر، والعالم العربي، ما زال يمكن وصفه بالثوري، ولكن مسار التحولات سيكون مختلفاً تماماً عن الطرق التي جرى اتباعها في القرن العشرين.
بالنظر إلى الأمور على نحو متأنٍ، تطرح أسئلة مثل: ما الطريقة التي لا بد من استخدامها لفهم ما حدث في مصر في بداية عام 2011؟ هل كانت هناك ثورة؟ فالسهولة التي تمت بها إزاحة الرئيس حسني مبارك جعلت بعضهم يعتقدون أن ما حدث محض خيال، لأن مبارك تنحّى ببساطة شديدة، ولأن جزءاً كبيراً من الطبقة الحاكمة أيقن أنه لا بد من التضحية به، للحفاظ على امتيازاتهم، بشكل يدعو إلى التساؤل، فقام الأثرياء ورجال الأعمال وفاسدون كثيرون، يشكلون لبَّ '"الدولة العميقة"، بما في ذلك كبار ضباط الشرطة وكبار المسؤولين، بتقديم استقالاتهم، ما أدى إلى تنحي الديكتاتور المزعج، في محاولة لتجنب ثورة أكبر، والحفاظ على الامتيازات القائمة.
في مصر، لم يكن الانتصار، كما تصور بعضهم، رحيل مبارك، ولكن الانتصار الحقيقي كان هزيمة "الدولة العميقة"، بمعنى إجراء إصلاحات عميقة وجوهرية، تتعلق في المقام الأول بوزارة الداخلية، وكذا الاستجابة لتطلعات المواطنين إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، (لا بد أن نتذكر أهمية الإضرابات العمالية بين 2006 ـ 2009)، وهي التي تتطلّب وجود رؤية اجتماعية في الأجلين، القصير والمتوسط. مع ذلك، كانت قوى المعارضة غير قادرة على وضع خطة واقعية واستراتيجية للسيطرة التدريجية على أجهزة الدولة، باستبعاد المسؤولين الرئيسيين في النظام السابق، أو إعفاء آخرين من مناصبهم، ما ساعد على استمرار أجواء التخبط. إن عدم وجود برنامج محدد، أو هدف وحيد، أو وجود قائد لهذه الثورة، اعتبره بعضهم نقطة قوة، بينما اعتبره آخرون نقطة ضعف.
ما حدث في العالم العربي لا يشبه، بأي حال، أياً من الثورات التي شهدها القرن العشرون، حيث تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد (ولا يزال لا يوجد) أي حزب سياسي، ولا أيديولوجية، في العالم العربي، قادرة على تعبئة الجماهير (كما الحال في روسيا في عام 1917، أو في إيران في 1978 ـ 1979) من أجل القضاء على جهاز الدولة القديم، وبناء الجديد. هذه الملاحظة التي سوف تسعد بعضهم، وتحزن آخرين، لن تغيّر من مجريات الأمور في شيء على مدار السنوات المقبلة. فالثورات العربية لم تعد فقط لا تشبه أي ثورة قبلها، بل وواكب ذلك تعرضها الدائم لانتكاسات موجعة، وإحرازها اليسير من أهدافها، ما جعلها تشبه عرائس الاستعراض الشهير "الليلة الكبيرة"، مجرد فوضى عارمة، بلا هدف محدد.
في هذه الأثناء، أجرت جماعة الإخوان المسلمين المصرية، والتي شاركت في ثورة يناير 2011 وضحّت بأعضاء كثيرين فيها، مفاوضات من أجل التوصل إلى إيجاد حل وسط مع النظام السابق، والمتمثل في كل من الجيش والشرطة، لكن الأمر تحول ملهاة مأساوية، حيث إن وزير الداخلية، الذي عيّنه مرسي، كان السفاح الذي قتل "الإخوان" وقمعهم، فدفعوا، في النهاية، نتيجة أخطائهم وتعصبهم الأعمى لفكرتهم بأنهم قادرون على إعادة تأهيل النظام السابق، في عيون مصريين عديدين، الأمر الذي أدى، في النهاية، إلى أن ترى الجماهير المصرية تدخل الجيش في أمور الحكم أمراً مقبولاً.
وعلى الرغم من استفادة الجيش من هذا الدعم في البداية، وعلى الرغم من القمع (أو بسببه)، فإن الحكومة المصرية الجديدة، وهي، باختصار، تمثل القيادة العليا للجيش، سيكون من الصعب عليها توطيد أسس حكمها، خصوصاً في المجال الاقتصادي والاجتماعي (فمصر باقية كدولة إلى الآن، بفضل المساعدات التي تتلقاها من السعودية ودول الخليج)، أو في ما يخص الحريات، فالسلطة لا تستجيب لمطالب ثورة يناير 2011.
في كتابه الشهير: "أمراض الطفولة اليسارية" (ليفتيسم)، الصادر عام 1920، عرّف فلاديمير لينين الحالة الثورية، على أنها: "فقط عندما يكون الذين في القاع قد أصبحوا لا يريدون المزيد، والذين في القمة لم يعد في مقدورهم الاستمرار في العيش بالطريقة القديمة"، فقط حينها يمكن أن تنتصر الثورة. وطبقاً لهذه المعايير، فإن الوضع في مصر، والعالم العربي، ما زال يمكن وصفه بالثوري، ولكن مسار التحولات سيكون مختلفاً تماماً عن الطرق التي جرى اتباعها في القرن العشرين.