كل شيء في النهاية يدور حول الأمتار، عن الفراغات وكيفية التحكّم بها في كل أركان المستطيل الأخضر، لذلك إذا نجحت في جعل الملعب متسعاً أمامك وضيقاً بالنسبة لخصمك، ستفوز حتماً في النهاية، لأن اختيارك للدفاع لا يعني أنك الأضعف، بل يكون الرهان في خنق المنافس ومنعه تماماً من الحركة بالكرة وبدونها.
فلسفة الدفاع
ماذا يعني الدفاع في قوانين التكتيك الحديث؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نتذكر مقولة يوهان كرويف حول هذه المسألة، حينما قال في لقاء فني قديم، ما هي المساحة التي تدافع خلالها؟ إذا كنت تدافع خلال مساحة تسع حديقة، أنت الأسوأ، وإذا كنت تدافع خلال مساحة ضيقة بقدر المستطاع، أنت الأفضل.
ومن هذا المنطق زادت مفاهيم الفلسفة الدفاعية في اللعبة، وأخذ كل مدرب جانب ما يتفق مع فكره وأسلوبه، لذلك هناك دفاع متقدم يلعب بخطٍ عالٍ بعيداً عن المرمى، من أجل الضغط المبكر على الخصم وتطبيق مصيدة التسلل، مع الحصول المستمر على الكرة، ويقود هذه المدرسة بيب جوارديولا ومعظم مدربي المدرسة الإسبانية، أما الدفاع من مسافة منخفضة عن طريق وضع أكبر عدد من الأقدام أمام المرمى، فيندرج تحت مسمى اللعب المتأخر، ويتفوق مورينيو وأقرانه في أكثر من مكان باللعب على خطى هذه العملية.
السؤال
تزيد المقارنات في الأوساط الرياضية وخلال التجمعات الكروية حول السؤال التقليدي، من الأفضل للمتابعين، اللعب بالدفاع المتقدم أم المنخفض؟ السعي وراء الـHigh Line أم الـLow Block؟ هل الأنجح أن يتقدم الفريق في معظم أرجاء اللعب، أم يتراجع للخلف وينتظر منافسه من أجل ضربه بالمرتدة القاتلة؟ وهكذا تبدأ الحرب الإعلامية خارج خطوط الملعب.
ليس هذا فقط هو التساؤل الوحيد، بل تبدأ التفضيلات المستمرة بين أكثر من مدافع، دون مراعاة خصائص الفريق الذي يلعب له هذا المدافع، بمعنى أوضح تيم كاهيل من تشيلسي ضد جيرارد بيكيه من برشلونة. من الممكن وقتها إجراء مقارنة تشمل بعض الأرقام والإحصاءات الخاصة بالثنائي، لكن معرفة من الأفضل بشكل عام أمر غاية في المنطقية، والسر يعود إلى طريقة لعب الفرق، واختلاف درجات التقييم في كل من الليغا والبريمييرليغ.
لذلك يقوم جيرارد بيكيه بمجهود وافر مع برشلونة، على مستوى بناء الهجمة وضبط التسلل، مع الزيادة الهجومية للأمام، ومراقبة المهاجمين أسفل دائرة المنتصف تقريباً، أما كاهيل فيلعب أكثر على مسافة قريبة من حارسه كورتوا، ويدافع في معظم الأوقات على مشارف منطقة الجزاء أو داخلها، ولا يصعد للأمام إلا أثناء الركنيات والضربات الثابتة فقط، لذلك حينما تتم المقارنة يجب أخذ هذه الملاحظات الفنية في الاعتبار.
المدافع المتقدم
قدم نيكولاس أوتاميندي موسماً استثنائياً مع الخفافيش في فالنسيا هذا الموسم، واستحق عن جدارة الدخول في معظم تشكيلات الليغا المثالية بعد نهاية المسابقة، وذلك للمستوى المبهر الذي أظهره أمام معظم المنافسين، وقيادته لدفاعات فريقه بشكل رائع أمام كبار البطولة، ليعيد اكتشاف نفسه مرة أخرى بعد مرحلة سابقة من الصعود والفشل في مختلف دوريات العالم، من أوروبا إلى أميركا اللاتينية.
يلعب المدرب نونو سانتو باستراتيجية الضغط المتقدم، ولا يُغيّر من قناعاته إلا في أضيق الأحوال، حتى أمام برشلونة في كامب نو، حصل فالنسيا على المبادرة وكان الطرف الأخطر معظم الوقت، لذلك يحتاج الفريق الشاب إلى نوعية خاصة جداً من المدافعين، تجيد الرقابة مع الجري، وتتمركز على مسافة قريبة من لاعبي الوسط بعيداً عن خط المرمى، حتى تكتمل كماشة الضغط ويصعب على المنافس عملية التمرير، والأرجنتيني أوتاميندي خيار مناسب جداً لهذا الرهان.
في حالات بناء الهجمة، يعود لاعب الارتكاز خافي فويجو إلى الخلف ويأخذ نيكولاس جانب طرفي من الملعب، ويصعد المدافع بالكرة بضع خطوات للأمام، حتى يستطيع الربط مع لاعبي الوسط، سواء بيريز أو باريخو. بينما تجد أوتاميندي أثناء المرتدات ضد فريقه، يدافع بقوة ويحاول دائماً خطف الكرة من مناطق بعيدة قبل وصول مهاجم الخصم إلى منطقة الجزاء، لذلك يقدم اللاعب نسخة جيدة للمدافع الذي يقود خط دفاع متقدم داخل الملعب.
وبالتالي لا عجب على الإطلاق حينما يتم تداول أخبار تفيد بأن اليونايتد يريد مدافع فالنسيا، خصوصاً أن فان جال مدرب يهوي التمرير من الخلف، ويطلب في مناسبات عديدة من مدافعيه الصعود لتطبيق الضغط واللعب كواحدة واحدة، ومدافع بقيمة وقدرات نيكولاس أوتاميندي سيقدم له الإضافة المرجوة سواء بالكرة أو بدونها.
المدافع المتأخر
رشح للقب أحسن لاعب هذا الموسم بالدوري الانجليزي أكثر من نجم، قبل أن يفوز هازارد بالجائزة في النهاية، بعد منافسة مع جون تيري وسيسك فابريجاس ونيمانيا ماتيتش، بالإضافة إلى لاعب مانشستر سيتي سيرخيو أجويرو وحارس مرمى مانشستر يونايتد ديفيد دي خيا ومهاجم توتنهام هاري كين ومهاجم أرسنال ألكسيس سانشيز.
وجود جون تيري قائد تشيلسي كان منطقياً للغاية، خصوصاً مع تقديمه لمستوى رائع وتسجيله أهدافاً قاتلة طوال الموسم، ويعتبر الكابتن خياراً مناسباً جداً لأفكار جوزيه مورينيو، برفقة زميله الآخر تيم كاهيل، لأن الثنائي الدفاعي يلعب في معظم الوقت أمام مرمى فريقه، ويدافع فريق تشيلسي من أسفل نقطة ممكنة بالخلف، ويتبع المدرب البرتغالي سياسة رد الفعل أمام مختلف خصومه، لذلك لا يهاجم البلوز كثيراً، بل يقف الفريق بالكامل أمام مرماه، ويصل إلى مبتغاه بالمرتدات القاتلة والضربات الثابتة.
لاعب مثل تيري سنه كبير، لا يجري كثيراً بالكرة أو بدونها، من الممكن أن يخسر سباقات السرعة أمام معظم المهاجمين، لكنه يمتاز بالتمركز المثالي، ويجيد بشدة دفاع المنطقة مع الرقابة الفردية أثناء الركنيات، وبالتالي تقل أخطاء مدافعي تشيلسي بالخلف، لأن هامش الخطأ قليل للغاية، مع ضيق المسافة بين آخر مدافع وحارس المرمى، عكس فرق أخرى كبرشلونة وفالنسيا مثلاً.
وبالعودة إلى سوق الانتقالات، سنجد أن مدرب مثل مورينيو حينما فكر في تعاقد دفاعي جديد، لم يفكر في جيرارد بيكيه أو أوتاميندي، بل تحول سريعاً إلى رافائيل فاران في ريال مدريد. وبعيداً عن سن اللاعب وقدراته المميزة، إلا أن نقطة دفاعه من الثبات وقدرته على التمركز في الدفاع المتأخر، أمور رجحت بشدة كفته مع أقرانه في مختلف الفرق الأخرى.
لذلك من الصعب جداً القول إن أوتاميندي ـ بيكيه أفضل من تيري ـ فاران، أو العكس أيضاً، لأن كل مدافع يقوم بدور مختلف عن الآخر، وما يفعله لاعب الليغا لا يقوم به نظيره في البريمييرليغ، وما ينجح فيه مدافع تشيلسي لا يُطلب من مدافع برشلونة القيام به، لأن العبرة في النهاية بالمهام التكتيكية لكل مدرب، وكما يقول البعض، كل شيخ وله طريقة!