08 نوفمبر 2024
أيتام على مائدة أميركا
يؤكد إعلان واشنطن بدء سحب قواتها من شمال سورية الحكمة القائلة إن المُتَدَثِّرَ بالولايات المتحدة عريان. ذلك درسٌ لم يستوعبه كثيرون ممن بنوا حساباتهم وأمنهم على المظلة الأميركية. المفارقة هنا أنك ما زلت تسمع كثيراً من أيتام الولايات المتحدة يتحدثون بلغة المصالح الاستراتيجية الأميركية، محذرين من تضرّرها (وكأنهم من عَصَبِ مؤسسة الحكم فيها!) إن هي تبنت مواقف تتناقض مع مصالحهم وحساباتهم. أيتام الولايات المتحدة كثر، ولهم في آسيا وأفريقيا وأوراسيا وأوروبا الشرقية عِبَر. أيضاً، للمنطقة المعروفة بالشرق الأوسط حصةٌ لا تنكر في حالة اليتم تلك. كثير منهم عرب لم يتعلموا الدرس، وأكراد كذلك، اكتشفوا معنى اللؤم في الحسابات الاستراتيجية والسياسية الأميركية، ولكن بأبشع الطرق.
لا يبغي هذا المقال تقديم رؤية تحليلية للإعلان الأميركي أخيرا بشأن الوجود العسكري في سورية، بقدر ما أنه محاولة لتسليط الضوء على فاجعة (صدمة) أيتام أميركا حين تغدر بهم. كان هذا أول رد فعل صدر عن القوات الكردية التي تحارب تنظيم داعش برياً على الأرض السورية نيابة عن الولايات المتحدة. يمثل الانسحاب الأميركي "طعنة في الظهر وخيانة لدماء آلاف المقاتلين". هكذا علقت تلك القوات على القرار الأميركي. ولم تكتف بذلك، فلا بد من جرعة تَنْظيرٍ استراتيجي على الولايات المتحدة وتذكيرها بمصالحها. مثلاً، هذا رياض درار، الرئيس المشترك لما يعرف بـ"مجلس سورية الديمقراطية"، يقول: "انسحابهم سيكون على حساب وجودهم المستقبلي في منطقة الشرق الأوسط، وسيعلنون خسارتهم بذلك أمام حلف الشرق المتمثل بتركيا وروسيا وإيران". ويضيف: إعلان واشنطن ليس فيه حسابات استراتيجية واضحة ويفيد روسيا.
سواء أكانت الولايات المتحدة ستخسر استراتيجياً من قرار الانسحاب من سورية أم لا، فإن هذا ليس هو ما ينبغي أن يقلق الأكراد الآن. يفهم الأكراد أن انسحاباً أميركياً، إن تمَّ بشكل كلي،
سيعني سحقهم بين تركيا وقوات النظام السوري المدعومة من روسيا وإيران. هامش المناورة سيتضاءل أمامهم من دون وجود أميركي، وعلى الأرجح سيكونون ورقة مساومة على طاولة التسويات الكبرى في سورية. ضمن السياق نفسه، لم يكن كثير من المعارضة السورية العربية أحسن حالاً من الأكراد السوريين. حتى هي سبق أن استثمرت جُلَّ أوراقها في الموقف الأميركي، فكان أن تلاعبت بها إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، ثمَّ أكمل دونالد ترامب المهمة. تَوَهَمَ بعض أطراف المعارضة السورية أن في وسعهم المراهنة على "المصالح الاستراتيجية الأميركية" في سورية والمنطقة. وفي سبيل ذلك، سعوا إلى تقديم أنفسهم أدوات في خدمة تلك الاستراتيجية. ولكنهم، كما أنظمة عربية كثيرة، كنظام حسني مبارك في مصر، مثلاً، لم يفهموا الفرق بين الأداة والشريك. تؤدي الأداة غرضا وينتهي مفعولها، وعندها لا يكون أمام صاحبها إلا التخلص منها أو ركنها جانباً. ولمن لم يستوعب المقصود بعد، فلينظر أين انتهى الحال بالمعارضة اليوم بعد أن تواطأ الجميع، وأولهم الولايات المتحدة، على وأد الثورة السورية. السياسة الخارجية الأميركية لا تقوم على مبادئ أخلاقية، مهما زعمت غير ذلك، والحسابات الاستراتيجية الأميركية لا تدار بمنطق الجمعيات الخيرية. المصالح الاستراتيجية والسياسيات الخارجية الأميركية مبناها هو التَوَحُّشُ بالأساس، وهي لا تروم غير منفعة الولايات المتحدة ومن تقرر شمله بالمنفعة معها.
قد يقول قائل هنا إن مسألة المصلحة الاستراتيجية الأميركية محل جدل أميركي داخلي، وهي
في الغالب ليست محل توافق، وهذا ما نراه في قرار ترامب الانسحاب من سورية. المؤسسة العسكرية الأميركية لا تؤيد الانسحاب من سورية، وهي عارضته من قبل وحاولت تعطيله، ولا يُستبعد أن تحاول الالتفاف عليه بطريقة أو أخرى. أيضاً، يعارض كثيرون في الحزبين الجمهوري والديمقراطي القرار. ويتفق غالب من سبق على أن قرار الانسحاب لا يخدم المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وأنه جاء لأسباب تتعلق بحسابات ترامب السياسية والانتخابية بالدرجة الأولى. كل ما سبق صحيح، لكنه لا يعني إضفاء شرعيةٍ على تَنْظيرِ "الأدوات" عن المصالح الاستراتيجية الأميركية. عندما يأتي التَنْظيرُ والنقد للسياسة الخارجية الأميركية من الداخل الأميركي فإنه يكون من موقع الشراكة والمُلْكِيَّةِ، وهو أمر مفهوم، وله تقديره وأثره، وعندما يأتيان من "الأدوات" فإنه يحمل كثيراً من الابتذال والخفة.
باختصار، الولايات المتحدة دولة تتحرّك ضمن نسق مصالحها الكبرى بالدرجة الأولى، من دون أن يعني ذلك، في أحيان كثيرة، غياب المصالح السياسية لصانع القرار فيها. أيضاً، من الممكن جداً أن ينجح طرف أجنبي في تجيير بعض جوانب السياسة الخارجية الأميركية لمصلحته، كما إسرائيل مثلاً، لكن هذا يتطلب نفوذاً كبيراً في واشنطن، وتحالفا استراتيجياً حقيقيا مع الولايات المتحدة. معظم العلاقات العربية - الأميركية تندرج في سياق العلاقة التي تربط بين مُوَكِّلٍ ووكيل، أما تلك التي تربط الولايات المتحدة بقوى حزبية وسياسية من غير الدول فتندرج في سياق الصانع والأداة.
لا يبغي هذا المقال تقديم رؤية تحليلية للإعلان الأميركي أخيرا بشأن الوجود العسكري في سورية، بقدر ما أنه محاولة لتسليط الضوء على فاجعة (صدمة) أيتام أميركا حين تغدر بهم. كان هذا أول رد فعل صدر عن القوات الكردية التي تحارب تنظيم داعش برياً على الأرض السورية نيابة عن الولايات المتحدة. يمثل الانسحاب الأميركي "طعنة في الظهر وخيانة لدماء آلاف المقاتلين". هكذا علقت تلك القوات على القرار الأميركي. ولم تكتف بذلك، فلا بد من جرعة تَنْظيرٍ استراتيجي على الولايات المتحدة وتذكيرها بمصالحها. مثلاً، هذا رياض درار، الرئيس المشترك لما يعرف بـ"مجلس سورية الديمقراطية"، يقول: "انسحابهم سيكون على حساب وجودهم المستقبلي في منطقة الشرق الأوسط، وسيعلنون خسارتهم بذلك أمام حلف الشرق المتمثل بتركيا وروسيا وإيران". ويضيف: إعلان واشنطن ليس فيه حسابات استراتيجية واضحة ويفيد روسيا.
سواء أكانت الولايات المتحدة ستخسر استراتيجياً من قرار الانسحاب من سورية أم لا، فإن هذا ليس هو ما ينبغي أن يقلق الأكراد الآن. يفهم الأكراد أن انسحاباً أميركياً، إن تمَّ بشكل كلي،
قد يقول قائل هنا إن مسألة المصلحة الاستراتيجية الأميركية محل جدل أميركي داخلي، وهي
باختصار، الولايات المتحدة دولة تتحرّك ضمن نسق مصالحها الكبرى بالدرجة الأولى، من دون أن يعني ذلك، في أحيان كثيرة، غياب المصالح السياسية لصانع القرار فيها. أيضاً، من الممكن جداً أن ينجح طرف أجنبي في تجيير بعض جوانب السياسة الخارجية الأميركية لمصلحته، كما إسرائيل مثلاً، لكن هذا يتطلب نفوذاً كبيراً في واشنطن، وتحالفا استراتيجياً حقيقيا مع الولايات المتحدة. معظم العلاقات العربية - الأميركية تندرج في سياق العلاقة التي تربط بين مُوَكِّلٍ ووكيل، أما تلك التي تربط الولايات المتحدة بقوى حزبية وسياسية من غير الدول فتندرج في سياق الصانع والأداة.