تبثُّ إحدى القنوات الفضائية العربية برنامجاً، في حلقات، عن أماكن لشعراء أعلامٍ في المدوَّنة الكلاسيكية الشعرية، التي أصبحت مرجعاً رئيساً للغة العربية. وهذا جهد سبق أن قام به رحالة ومستعربون غربيون، كما حاول كاتب هذه السطور مقاربة بعض الأمكنة التي وثقتها المدونة الكلاسيكية العربية، سواء الجاهلية منها أم الأموية والعباسية.
كتبتُ، من قبل، في "العربي الجديد"، عن وقفة القصيدة العربية الملزمة على أمكنة الأهل والأحباب التي تحوَّلت، بفعل الهجران وسطوة الطبيعة، إلى أثرٍ بعد عَين. لا يختلف مسعاي، اليوم، عما كانت تبدأ به قصيدتنا القديمة، فالأمر في الحالتين يتعلق بأثر، ببقايا مكان، أو بما نسميه: الأطلال.
يسهل على الباحث الإيطالي، على سبيل المثال، أن يتعقب أثر أوفيد، أكبر شعراء اللغة اللاتينية، ويصعب، إن لم يكن مستحيلاً، فعل ذلك في خصوص أمكنة امرئ القيس أو طرفة.
مكان أوفيد الأهم، قبل أن ينفيه الإمبراطور أوغسطس إلى أقتم بقعة في الإمبراطورية، هو روما. وهذه مدينة لم يطفأ لها ضوء، ولا أُسدل عليها ستار من الهجران، على مدار تاريخها الطويل، والتحولات الكبيرة التي طرأت عليها. وعكس هذا أمكنة "الملك الضليل" أو طرفة. السيادة هنا للرمال والرياح، فيما هي في روما للحجر والرخام. التجريد يقابل التجسيد. الهش والزائل مقابل الصلب الذي يقاوم، بصلابة مادته، زوالاً قادماً لا محالة، لكنه ليس بسرعة زوال مكان الشاعر العربي القديم.
ومن بين الأمكنة التي تنسب إلى شاعر وقصيدة واحة "ليوا"، في الجغرافيا الحالية للإمارات، التي يقال إنها موطن عبلة حبيبة عنترة العبسي وابنة عمه التي يرد ذكرها في بيته هذا: يا دار عبلة في الجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي. و"الجواء"، لغة، من الجوّ، وهو المنخفض المنبسط من الأرض، المحصور بين تلال. وهذه الطبوغرافيا، إضافة إلى اللفظة نفسها، شجَّعت بعض الباحثين الإماراتيين على الاعتقاد بأن المكان المقصود في بيت عنترة الشعري هو واحة "ليوا"، الواقعة على أطراف أعظم صحراء في العالم: الربع الخالي.
مَنْ يقول بهذا القول يرى أن كلمة "الجواء"، صارت بالتصحيف ولسان قبائل صحراء الظفرة الذي يقلب الجيم ياءً، "ليوا". هذا ممكن بالطبع. فقد استند المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي على اللغة في بحثه عن جغرافيا التوراة في شبه جزيرة العرب. ولكن حتى لو سلمنا بهذا الحتّ الذي طال لفظة "الجواء" وتحولها، بمرور الوقت، إلى "ليوا"، يظل علينا أن نعثر على الأمكنة الأخرى المرتبطة، إلى هذا الحد أو ذاك، بالجواء، حسب ما يجيء في البيتين التاليين من معلقة عنترة: وتحل عبلة بالجواء وأهلنا بالحزن والصمان فالتمثلّمِ/ كيف المُزار وقد تربَّع أهلها بعُنيزتين وأهلنا بالغيْلَمِ.
فهل يمكن أن تكون "الجواء" هي "ليوا" ولا تكون هناك في محيطها هذه المواقع الواردة أعلاه: الحزن، الصمّان، المتثلم، عُنيزتين. هذا عدا عن بئر الدحرض (التي يثنيها عنترة) وحياض الديلم، التي ترد في حديثه عن ناقته؟
لكاتب هذه السطور كتاب في الرحلة، وقف فيه على جانب من صحراء الظفرة التي تقع فيها واحة "ليوا"، حيث ترتحل التلال كما ترتحل القوافل، ويستحيل، كلما ابتعدت عن الواحة، أن تعرف أين أنت، وأن يتم العثور عليك حياً. لم يكن في محيط واحة "ليوا"، الموطن الأول لقبيلة بني ياس، ما يدلّ على أن عنترة وصل إلى هذه الواحة، الصامدة بمعجزة في قلب رمل يليه رمل، فمحاضر ليوا (قراها باللفظ المحلي) التي تبلغ نحو خمسين محضراً (قرية) لا قربى بينها، لفظاً ووصفاً، وأمكنة معلقة عنترة. هذا فضلاً عن أن عنترة ينتمي إلى قبيلة عبس التي كانت تستوطن هضبة نجد، شأنه شأن معظم شعراء المعلقات الذين ينحدرون من هذا الصوب من جزيرة العرب. وبين نجدٍ وواحة ليوا بحر من الرمل الذي لم يسبق لرجل عبوره حتى أواسط القرن العشرين، عندما قام بهذه الرحلة الشاقة الرحالة الإنجليزي ويلفرد ثيسغر.
وفي خصوص الظن بأنَّ ليوا هي الجواء التي يقصدها عنترة، يقول الباحث أحمد محمد عبيد "يبدو أن الجواء هو الاسم القديم لمناطق ليوا الحالية، وقد تطور نطق الاسم، بسبب تساهل الناس في النطق باللغة العربية الفصحى، إلى أن وصلنا إلى النطق العامي المتداول حالياً، وفي بلاد العرب مناطق عديدة عرفت بالجواء، ولا علاقة بين الجواء أو ليوا وبين لفظة الجواء التي وردت في معلقة عنترة".
نجدٌ إذن، وليست "ليوا"، هي بلاد عبلة وعنترة وقبيلة بني عبس، وفي تلك الهضبة ذات التضاريس المتقلبة بين الرمل والحجر والعشب والأودية الغائرة، تدور "وقائع" معلقته التي قد تكون الأكثر قدرة على وصف بيئتها وطبائع أهلها، فضلاً عن شعريتها التي جعلتها واحدة مما سمي بـ"المذهّبات"، وهي القصائد التي يقال إنها كتبت بالذهب وعلقت على أستار الكعبة.
أخيرا.. يكفي عنترة أن يكون القائل في ذلك الزمن البعيد: هل غادر الشعراء من متردَّمِ....
كتبتُ، من قبل، في "العربي الجديد"، عن وقفة القصيدة العربية الملزمة على أمكنة الأهل والأحباب التي تحوَّلت، بفعل الهجران وسطوة الطبيعة، إلى أثرٍ بعد عَين. لا يختلف مسعاي، اليوم، عما كانت تبدأ به قصيدتنا القديمة، فالأمر في الحالتين يتعلق بأثر، ببقايا مكان، أو بما نسميه: الأطلال.
يسهل على الباحث الإيطالي، على سبيل المثال، أن يتعقب أثر أوفيد، أكبر شعراء اللغة اللاتينية، ويصعب، إن لم يكن مستحيلاً، فعل ذلك في خصوص أمكنة امرئ القيس أو طرفة.
مكان أوفيد الأهم، قبل أن ينفيه الإمبراطور أوغسطس إلى أقتم بقعة في الإمبراطورية، هو روما. وهذه مدينة لم يطفأ لها ضوء، ولا أُسدل عليها ستار من الهجران، على مدار تاريخها الطويل، والتحولات الكبيرة التي طرأت عليها. وعكس هذا أمكنة "الملك الضليل" أو طرفة. السيادة هنا للرمال والرياح، فيما هي في روما للحجر والرخام. التجريد يقابل التجسيد. الهش والزائل مقابل الصلب الذي يقاوم، بصلابة مادته، زوالاً قادماً لا محالة، لكنه ليس بسرعة زوال مكان الشاعر العربي القديم.
ومن بين الأمكنة التي تنسب إلى شاعر وقصيدة واحة "ليوا"، في الجغرافيا الحالية للإمارات، التي يقال إنها موطن عبلة حبيبة عنترة العبسي وابنة عمه التي يرد ذكرها في بيته هذا: يا دار عبلة في الجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي. و"الجواء"، لغة، من الجوّ، وهو المنخفض المنبسط من الأرض، المحصور بين تلال. وهذه الطبوغرافيا، إضافة إلى اللفظة نفسها، شجَّعت بعض الباحثين الإماراتيين على الاعتقاد بأن المكان المقصود في بيت عنترة الشعري هو واحة "ليوا"، الواقعة على أطراف أعظم صحراء في العالم: الربع الخالي.
مَنْ يقول بهذا القول يرى أن كلمة "الجواء"، صارت بالتصحيف ولسان قبائل صحراء الظفرة الذي يقلب الجيم ياءً، "ليوا". هذا ممكن بالطبع. فقد استند المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي على اللغة في بحثه عن جغرافيا التوراة في شبه جزيرة العرب. ولكن حتى لو سلمنا بهذا الحتّ الذي طال لفظة "الجواء" وتحولها، بمرور الوقت، إلى "ليوا"، يظل علينا أن نعثر على الأمكنة الأخرى المرتبطة، إلى هذا الحد أو ذاك، بالجواء، حسب ما يجيء في البيتين التاليين من معلقة عنترة: وتحل عبلة بالجواء وأهلنا بالحزن والصمان فالتمثلّمِ/ كيف المُزار وقد تربَّع أهلها بعُنيزتين وأهلنا بالغيْلَمِ.
فهل يمكن أن تكون "الجواء" هي "ليوا" ولا تكون هناك في محيطها هذه المواقع الواردة أعلاه: الحزن، الصمّان، المتثلم، عُنيزتين. هذا عدا عن بئر الدحرض (التي يثنيها عنترة) وحياض الديلم، التي ترد في حديثه عن ناقته؟
لكاتب هذه السطور كتاب في الرحلة، وقف فيه على جانب من صحراء الظفرة التي تقع فيها واحة "ليوا"، حيث ترتحل التلال كما ترتحل القوافل، ويستحيل، كلما ابتعدت عن الواحة، أن تعرف أين أنت، وأن يتم العثور عليك حياً. لم يكن في محيط واحة "ليوا"، الموطن الأول لقبيلة بني ياس، ما يدلّ على أن عنترة وصل إلى هذه الواحة، الصامدة بمعجزة في قلب رمل يليه رمل، فمحاضر ليوا (قراها باللفظ المحلي) التي تبلغ نحو خمسين محضراً (قرية) لا قربى بينها، لفظاً ووصفاً، وأمكنة معلقة عنترة. هذا فضلاً عن أن عنترة ينتمي إلى قبيلة عبس التي كانت تستوطن هضبة نجد، شأنه شأن معظم شعراء المعلقات الذين ينحدرون من هذا الصوب من جزيرة العرب. وبين نجدٍ وواحة ليوا بحر من الرمل الذي لم يسبق لرجل عبوره حتى أواسط القرن العشرين، عندما قام بهذه الرحلة الشاقة الرحالة الإنجليزي ويلفرد ثيسغر.
وفي خصوص الظن بأنَّ ليوا هي الجواء التي يقصدها عنترة، يقول الباحث أحمد محمد عبيد "يبدو أن الجواء هو الاسم القديم لمناطق ليوا الحالية، وقد تطور نطق الاسم، بسبب تساهل الناس في النطق باللغة العربية الفصحى، إلى أن وصلنا إلى النطق العامي المتداول حالياً، وفي بلاد العرب مناطق عديدة عرفت بالجواء، ولا علاقة بين الجواء أو ليوا وبين لفظة الجواء التي وردت في معلقة عنترة".
نجدٌ إذن، وليست "ليوا"، هي بلاد عبلة وعنترة وقبيلة بني عبس، وفي تلك الهضبة ذات التضاريس المتقلبة بين الرمل والحجر والعشب والأودية الغائرة، تدور "وقائع" معلقته التي قد تكون الأكثر قدرة على وصف بيئتها وطبائع أهلها، فضلاً عن شعريتها التي جعلتها واحدة مما سمي بـ"المذهّبات"، وهي القصائد التي يقال إنها كتبت بالذهب وعلقت على أستار الكعبة.
أخيرا.. يكفي عنترة أن يكون القائل في ذلك الزمن البعيد: هل غادر الشعراء من متردَّمِ....