أين الدولة؟
ومن ناحية أخرى، فإنّ التحدي عادة ما يستفز التلميذ ويدفعه لسلوك يحرج المعلم أمام بقية التلاميذ. فهل يظن المسؤولون في الحكومة الأردنية أنّ إدارة بلاد بأكملها ستنجح بأسلوب العناد والتحدي؟
لم يعد خافيًا على الشعب الأردني أي عنادٍ حكومي يواجه، فقد اعتاد التعاطي مع حكومات تلجأ إليه لحل أزماتها وخفض مديونياتها وسدّ عجز موازناتها والإنفاق على رفاهيات أعضائها دونما التفات لأصوات المعترضين الرافضين؛ صار شعبًا متمرسًا في هذا المجال. لكن أن تمارس معه الحكومة سياسة حافة الهاوية وتصعيد الأزمات بتحدٍ معلن على شاكلة التصريحات التي سمعناها أمس فهذه إهانة لا أظن أنّ الشعب سيتجاوزها بسهولة.
يعرف الشعب أنّ تبديل الحكومات لن يجدي نفعًا، وأنّ مطلبه الحقيقي، وإن جاء هذه المرة على صورة رفض قانون مشروع ضريبة الدخل الجديدة ورفض قرار رفع أسعار المحروقات والكهرباء المتكرر إلى ما لا نهاية، إنّما يتمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد الذي قاد البلاد إلى هذه الحال. ويعرف الشعب أنّ الدولة وُجدت لتحقق له حياة أفضل من مشاعات الصحراء التي كان يحياها. ويعرف أيضًا أنّ تحقيق أحلام حفنة من المسؤولين والمتنفذين بتوسيع أملاكهم وزيادة أرصدتهم ليست من ضمن قوائم مسؤولياته وواجباته.
عجيب كيف تأخذ العلاقة بين المسؤولين والشعوب في منطقتنا شكل العداء والصدام، كيف ينتقل المسؤول إلى حالة العداء مع الآخر فور تسلمه منصبه! كيف تتملكه جرأة المشاركة في إفراغ مفهوم الدولة من معناه، ليتحول فيها من موظف يشرف على تنظيم حياة الشعب وتسهيلها وتحسينها إلى سجّان يشرف على تنفيذ هذا الشعب عقوبة الأشغال الشاقة في "منجم" الحكومة! فهل فقدنا المعنى، معنى الدولة، أم أننا لم ندركه أساسًا وأخذنا منه شكلًا تتلبسه روح مشوهة مريضة تحكم بسلطة الفرد ورغباته ونزواته؟
نعم، لدينا مقومات الدولة، لدينا أرض وشعب وسلطة وقانون، لكن لماذا تأتي المخرجات على هذه الصورة البشعة حين يكون الحديث عن دولة تحفظ لشعبها الحد الأدنى من الحياة الطبيعية؟ ولماذا نشعر أننا لا نزال هنا بعيدين عن عصر الدولة؟
يقول فرج فودة إنّ صلاح الحكم واستقرار الدولة العادلة لا يكون "بصلاح الحاكم، أو بصلاح الرعية، ولا يتأتى بتطبيق الشريعة، وإنّما يتحقق بوجود ما يمكن أن نسميه (نظام الحكم)"، أي "الضوابط التي تحاسب الحاكم إن أخطأ، وتمنعه إن تجاوز، وتعزله إن خرج عن صالح الجماعة، أو أساء لمصالحها". للأسف، هذه الضوابط غائبة كليًا عن أنظمة الحكم في بلادنا، غائبة عن دساتيرنا، وغائبة حتى عن خيال الشعوب لبعد تحقيقها.