31 أكتوبر 2024
أين لا توجد الثورة في العالم العربي؟
أين لا توجد الثورة في العالم العربي، وأين لا تقيم، إذا كانت كل الجغرافية العربية، من دون استثناء، تغلي وتفور، في سنوات الجمر والدماء هذه، وإذا كانت المجتمعات العربية، ومن دون استثناء أيضاً، لم تعد ترى في أنظمة الحكم سوى عصابات ولصوص، وإذا كانت قنوات التواصل بين الأنظمة والأجيال الطالعة مبتورة، ولم تعد السلطة، في نظر هؤلاء، سوى صورة كاريكاتورية بائسة.
يخطئ من يعتقد أن الثورات تنحصر بثلاثة أو أربعة بلدان، كما يخطئ من يحصر تعبيرات الثورات بذلك الشكل الذي ظهرت عليه إبّان الربيع العربي، فقد أثبتت الأحداث التالية أن الشعوب تؤسّس ثوراتها بناءً على معطياتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ محلية، وصلت إلى مرحلة النضوج، ولم يعد ممكناً مداراتها، كما أن مساحة تعبيراتها واسعة ومتنوّعة، تتطابق مع خبراتها عن نظام الحكم وإدارته الأمنية وأساليبه القمعية.
وتخطئ الأنظمة، إذ تعتقد أن العنف الذي جرت ممارسته في سورية ومصر تجاه الثورات شكّلت جداراً منيعاً بين الشعوب والثورات، فقد أطاحت الانتفاضات، في السودان والجزائر، هذا الاستثمار الذي ثبت أنه لم يكن أكثر من جدار من ورق، وقد ظهرت سلطات البلدين بصورة بائسة ومضحكة، وهي تخرج الورقة السورية وتقذفها في وجه الثائرين عليها، فلا هي أحدثت
الصدمة المرتجاة، ولا مسيرة الثورات تعطّلت عند سماع هذا النبأ.
ثمّة تقديراتٌ بدأت تصدر عن احتمال عودة الانقلابات العسكرية بزخمٍ أقوى، توجد مؤشراتٌ واضحةٌ على هذا الاحتمال، في ظل بروز أجنحةٍ وتوجّهاتٍ وتياراتٍ لها رؤى وتقديرات مختلفة، بهدف الحفاظ على بنية الحكم. وفي كل الأحوال، هذا نموذج جرّبته مصر بعد ثورة 25 يناير، وهو يلوّح بقوة في الجزائر ومصر والسودان في الوقت الحاضر، وهذا مؤشّر قوي على إدراك نخب الحكم العربية استحالة النجاة من الثورات من دون التضحية بأجزاء منها، وربما، التضحية ببنى كاملة من هذه الأنظمة.
كل الاحتمالات أصبحت ممكنة، ما دامت الأدوات التي استخدمتها أنظمة الحكم للقبض على المجتمعات العربية وتثبيتها لم تعد صالحةً للعمل، فمنظومة القيم التي رسّختها الأنظمة العربية انهارت، وفي الحقيقة كانت أغرب منظومة قيم تأسّست على خليطٍ من الخوف والفساد، وتقديس رموز الحكم وإقناع الغالبية الكبرى من المجتمعات بالقبول بهذه الأوضاع، القبول بالتمايز الحاصل باعتباره حقاً للطبقات العليا، واعتبار حياة الذل والفقر للطبقات الدنيا من صنع أيديها، وعقاب ولعنة على خطأ لم ترتكبه.
صار المشهد بكامله مكشوفاً أمام المواطن العربي، لم تعد هناك مقدّسات ولا طواطم، فسدنة الجيوش ليسوا سوى متعهدين وكروش ابتلعت البلاد، وهي تتوارى خلف البزّة العسكرية، ولم تنجح محاولات إعادة القداسة إلى هذه الجيوش، بعد أن أغرقوها بدماء الشعوب. ونتيجة ذلك، استقرّ في الوجدان الوطني أن هذه الجيوش ليست سوى آلات قتل صماء وغبية، توجهها الأنظمة بأجهزة الريموت كونترول، أو شيء يشبه وحشاً مدرباً يوجهه راعيه للفتك بالخصوم، فمن أين تأتي القداسة لهذه الجيوش؟
ومن كانوا يُطلق عليهم أساطين الفكر والصحافة في وسائل الإعلام ومنصاته التي تديرها الأنظمة، انكشفوا بوصفهم شخصياتٍ ضحلةً تافهةً واسترزاقية، لا يتجاوز فهمهم كليشيهات وقوالب، حفظوها صماً وردّدوها مثل ببغاوات، ولم تكن في الحقيقة سوى صدى صوت حاكم غبي، وشروحات لمحظوراته وممنوعاته، وأهازيج تقديس لشخصه المنحط المتعطش للمديح دائماً.
وأمام صدمة الثورات، ستلجأ الأنظمة والنخب الحاكمة لتجريب أنماط جديدة من التعاطي والإدارة والحكم، والمرجّح أننا سنشهد، في المرحلة المقبلة، محاولات ترشيق وتشذيب للأنظمة، إلى جانب عمليات القمع التي تشكّل المادة الأساس للتعامل مع المتغيرات الحاصلة في البيئة
العربية. ولكن لا بد من ملاحظة مسألة أساسية، أن الورقة السورية التي اعتقدت الأنظمة العربية الحاكمة أنها رصيد مهم في مواجهة الشعوب سيكون مفعولها سلبياً على الأنظمة نفسها، ليس لأنها ورقة انتحارية، بقدر ما أن زمنها انتهى، وصعوبة، إن لم يكن استحالة، توفر ظروفها وشروطها خارج سورية، ربما لعدم إمكانية استدعاء إيران وروسيا، أو لانخفاض وزن الصراع الطائفي في البلدان العربية الأخرى.
يصحّ القول إننا نعيش مرحلة ثورة مديدة، بأشكال ومظاهر متعدّدة، تتشكّل وتتلوّن حسب ظروف البلد الذي تصدر منه، تخفت وتنوس حيناً، وتنهض وتزخم أحياناً، ليس بسبب عناد البنى القديمة، ورفضها التنحّي من المشهد بسهولة، ولكن أيضاً لأن النخب الجديدة ما زالت في مرحلة بناء، وربما هذا ما يفسّر تعسر ولادات الأنظمة الجديدة، وعندما ذهبت الشعوب العربية إلى الثورات، لم تكن تملك سوى غضبها، وصندوق مليء بأخطاء النخب الحاكمة، من فساد وسوء إدارة وجرائم وانتهاكات، وثبت أن هذه العناصر، وعلى الرغم من وجاهتها، لا تكفي لعبور مرحلة الثورات إلى صنع أنظمة الحكم التي تريدها الشعوب، كما أن هذه الأدوات قد تكون صالحةً لإزاحة رأس نظام ما، وخلخلة بنى داخل منظومات الحكم، لكنها لا تكفي لمواجهة أنظمة عميقة، قادرة على استنبات ثوراتٍ مضادة من جذورها العميقة.
أين لا توجد ثورة في العالم العربي، وحالة عدم الاستقرار هي السائدة أينما نظرت في خريطة الحكم العربية. الصحيح أننا نعيش زمن الثورة الذي قد يمتد على مساحة سنوات، وربما عقود، لكن لا رجوع عن إزاحة بنى الحكم الحالية التي باتت تشكّل جداراً عازلاً عن مستقبلات بديلة مرجوة.
وتخطئ الأنظمة، إذ تعتقد أن العنف الذي جرت ممارسته في سورية ومصر تجاه الثورات شكّلت جداراً منيعاً بين الشعوب والثورات، فقد أطاحت الانتفاضات، في السودان والجزائر، هذا الاستثمار الذي ثبت أنه لم يكن أكثر من جدار من ورق، وقد ظهرت سلطات البلدين بصورة بائسة ومضحكة، وهي تخرج الورقة السورية وتقذفها في وجه الثائرين عليها، فلا هي أحدثت
ثمّة تقديراتٌ بدأت تصدر عن احتمال عودة الانقلابات العسكرية بزخمٍ أقوى، توجد مؤشراتٌ واضحةٌ على هذا الاحتمال، في ظل بروز أجنحةٍ وتوجّهاتٍ وتياراتٍ لها رؤى وتقديرات مختلفة، بهدف الحفاظ على بنية الحكم. وفي كل الأحوال، هذا نموذج جرّبته مصر بعد ثورة 25 يناير، وهو يلوّح بقوة في الجزائر ومصر والسودان في الوقت الحاضر، وهذا مؤشّر قوي على إدراك نخب الحكم العربية استحالة النجاة من الثورات من دون التضحية بأجزاء منها، وربما، التضحية ببنى كاملة من هذه الأنظمة.
كل الاحتمالات أصبحت ممكنة، ما دامت الأدوات التي استخدمتها أنظمة الحكم للقبض على المجتمعات العربية وتثبيتها لم تعد صالحةً للعمل، فمنظومة القيم التي رسّختها الأنظمة العربية انهارت، وفي الحقيقة كانت أغرب منظومة قيم تأسّست على خليطٍ من الخوف والفساد، وتقديس رموز الحكم وإقناع الغالبية الكبرى من المجتمعات بالقبول بهذه الأوضاع، القبول بالتمايز الحاصل باعتباره حقاً للطبقات العليا، واعتبار حياة الذل والفقر للطبقات الدنيا من صنع أيديها، وعقاب ولعنة على خطأ لم ترتكبه.
صار المشهد بكامله مكشوفاً أمام المواطن العربي، لم تعد هناك مقدّسات ولا طواطم، فسدنة الجيوش ليسوا سوى متعهدين وكروش ابتلعت البلاد، وهي تتوارى خلف البزّة العسكرية، ولم تنجح محاولات إعادة القداسة إلى هذه الجيوش، بعد أن أغرقوها بدماء الشعوب. ونتيجة ذلك، استقرّ في الوجدان الوطني أن هذه الجيوش ليست سوى آلات قتل صماء وغبية، توجهها الأنظمة بأجهزة الريموت كونترول، أو شيء يشبه وحشاً مدرباً يوجهه راعيه للفتك بالخصوم، فمن أين تأتي القداسة لهذه الجيوش؟
ومن كانوا يُطلق عليهم أساطين الفكر والصحافة في وسائل الإعلام ومنصاته التي تديرها الأنظمة، انكشفوا بوصفهم شخصياتٍ ضحلةً تافهةً واسترزاقية، لا يتجاوز فهمهم كليشيهات وقوالب، حفظوها صماً وردّدوها مثل ببغاوات، ولم تكن في الحقيقة سوى صدى صوت حاكم غبي، وشروحات لمحظوراته وممنوعاته، وأهازيج تقديس لشخصه المنحط المتعطش للمديح دائماً.
وأمام صدمة الثورات، ستلجأ الأنظمة والنخب الحاكمة لتجريب أنماط جديدة من التعاطي والإدارة والحكم، والمرجّح أننا سنشهد، في المرحلة المقبلة، محاولات ترشيق وتشذيب للأنظمة، إلى جانب عمليات القمع التي تشكّل المادة الأساس للتعامل مع المتغيرات الحاصلة في البيئة
يصحّ القول إننا نعيش مرحلة ثورة مديدة، بأشكال ومظاهر متعدّدة، تتشكّل وتتلوّن حسب ظروف البلد الذي تصدر منه، تخفت وتنوس حيناً، وتنهض وتزخم أحياناً، ليس بسبب عناد البنى القديمة، ورفضها التنحّي من المشهد بسهولة، ولكن أيضاً لأن النخب الجديدة ما زالت في مرحلة بناء، وربما هذا ما يفسّر تعسر ولادات الأنظمة الجديدة، وعندما ذهبت الشعوب العربية إلى الثورات، لم تكن تملك سوى غضبها، وصندوق مليء بأخطاء النخب الحاكمة، من فساد وسوء إدارة وجرائم وانتهاكات، وثبت أن هذه العناصر، وعلى الرغم من وجاهتها، لا تكفي لعبور مرحلة الثورات إلى صنع أنظمة الحكم التي تريدها الشعوب، كما أن هذه الأدوات قد تكون صالحةً لإزاحة رأس نظام ما، وخلخلة بنى داخل منظومات الحكم، لكنها لا تكفي لمواجهة أنظمة عميقة، قادرة على استنبات ثوراتٍ مضادة من جذورها العميقة.
أين لا توجد ثورة في العالم العربي، وحالة عدم الاستقرار هي السائدة أينما نظرت في خريطة الحكم العربية. الصحيح أننا نعيش زمن الثورة الذي قد يمتد على مساحة سنوات، وربما عقود، لكن لا رجوع عن إزاحة بنى الحكم الحالية التي باتت تشكّل جداراً عازلاً عن مستقبلات بديلة مرجوة.