أُمُّ سعدون

25 اغسطس 2020
عمل لـ سعاد العطار
+ الخط -

آنَ ولدتُ، أَهْدَتْ أُمُّ سعدونَ لأُمّي قِماطاً من الوبر، حاكتهُ بيديها.
بُنيّاً خشناً بعرض إصبعين، كانَ أوّل قَيدٍ في حياتي.

*

لأُمِّ سعدون بعيرٌ لا غير، تنظّفُ وبَرَهُ تحتَ سماء أسلافها بعد جولة الصّباح في الحقل. وحتّى تنهمكَ الشّمسُ غاربةً، تنشغلُ بمِغزلٍ نحيل. خرفانها سَكرانةٌ بـ"الطّرطيع" وقِدرُها يقزحُ بضحكِ البطّات.

..

"هذا ليسَ محضَ قِماط،
إنَّهُ حِرْز"، تقولُ لأُمّي
وأُمّي تُصدّقها.

*

تنزلُ أُمّ سعدون لباذبين، تبيعُ "البگل" والحكايات على ربّات البيوت، تقايضُ حزوزَ القصب على أصابعها والجِلدةَ المسلوخة تحت الشّمس بأوراق الشّاي وبخّاخ الربو.
ربّةٌ بلا عبيد، عرشُها المرجُ وصولجانها المنجل. كاهنةٌ بلا معبد، تراتيلها نعي تحت جَناح السّماء، وصَلاتُها صلبٌ على أعواد الشّموس. لم تفكّ من الحروف سوى الوداع، هكذا صارت شريعةً تلوّح مع الأيّام لمراكبَ قُيِّضَ لها سفرٌ لا عودة منه. "الغادي ما يرد" تقولُ. وكيف يرجع مَن مضى في وادٍ لا عنوان له ولا دليل. لم تفسّر "أمّ سعدون" من الأحلام سوى الانتظار. انتظار الزّرع. انتظار السّماء تأتي بالمطر. انتظار القدور على النّار. انتظار الغائب. من قضّى عمره في الانتظار يعرف أن لا جزاءَ يجزل. ذلك أنّ الجزاء حين يتأخّر لا نلبثُ، أنفسنا نحن الذين انتظرناه، شيء فينا يتغير، نتجاوز الجزاءَ وننسى المثوبة.
لا يجاري انتظار الأُمّ سوى الأرض وهي تنتظر. تنتظر السّرَّ المودع في الكائن وقد انفصل عنها ومضى ينهل من اللذّة والوجع في كف واحدة. ترقَبُ وعدَ الغد وهو ينمو مثل جنين في رحمها. وعد الحياة وهي تقول: ما دمتَ قبلْتَني فخُذ السّكّينَ كما تأخذُ الوردة. مَن علّم الأُمّهاتِ أسرارَ الأرض؟ مَن أعارَ الأرضَ قلوبَ الأُمّهات؟ هذه السّباخ يلوّنُها الأخضرُ المسْوَدُّ مدينةٌ لأيادي الملائك المرئيّة تلك. هذه الطيور على الأغصان وتلك السناجب بين الجذوع والبقرة التي ترعى وادعة. كلّ شيء ينبض للأُمّ وسرّها. وباذبين، لو كانت، فبِها ومنها، وبغيرها لم تكن يوماً. لا ساقيةَ تُسفَح هنا إلّا بمشيئة أُمّ، ولا فيءَ يُمَدُّ حتّى تأذنَ مسحاتُها بالماء.
 
*

للأمّهات انتسابٌ للسواد. نسبةٌ فرضَتْها طبيعةُ علاقتهن بالحياة، وهي علاقة حِدادٍ وأسى. أيّام هي سلسلةُ سوادٍ متّصل: ظلامُ الرَّحِم، عتمةُ العباءة، دهمةُ الشّباب، سوادُ الثوب على المفقود، سخامُ القُدور، دجى العنوسة، حِلكة العُقْر، ظلمةُ اللحد. 
كنتُ أرى وجوه النسوة في بيت جدّي تضاعِفُ من بريقها دجنةُ الأثواب القاتمة وهي تلفّ الجسدَ بالكآبة. أقمارٌ سيّارةٌ بلون الحنطة بدتْ لي من أعلى السّتائر المنسدلة بالعَتْمة كأنّها أطياف تستغيث. الجسدُ الأخضر الخفِر يغطّيه لونُ الفحم ويُضفي عليه جلالةً ساهمة. هناك من ادّخرته الحياةُ للألم كما تدّخر البحارُ العواصف للسفن. لم أرَ الزائرةَ العجوز سوى بالأسْود المهيب، تفرش صُرَّتها أمام جدّتي ولا تنقطع عن الحديث والضّحك والإشارات. رأسُها مكلّل بعمامة ثقيلة، تلوحُ كأنّها رَحًى تهرِسُ القصص والصّور والوجوه. 
يحزن الرجال لأيّام ولا يرتدون السّواد، بينما يلفّ الحِدادُ المرأةَ حتّى آخر ساعة في حياتها. أفكر مَن يمسحُ عن هذه الوجوه غبرة حزنها؟ وبأيّ قاربٍ تعبر نهر اللّيل الذي بلا ضفاف.

*

وللأُمّهات انتسابٌ للمحو. قانونٌ وضَعَه الشّريكُ السّيّد. مَن كان بذرةً في بطنها بالأمس كَبُرَ اليوم وحمَلَ الفأسَ ليقطع الشّجرة. امحُ كُلَّ أثرٍ، يهتفُ السّيّد ويهتزُ شاربه. الصّوت الذي ظَلّل مهدَهُ بالندى صار عورة. غابةُ الشَّعر والعطر المتوهّج بالطُّمأنينة، حتّى الاسمُ المحض عورةٌ وعارٌ ينبغي أن يُمحى. كنتُ أسمعُ الرجال يخجلون من ذِكر المرأة فيستبدلونها بالكُنى والتلميح. امحُ كُلَّ أثر، لا تُبقِ لوصمتكَ اسماً أو رسماً. منذورةٌ للسهو والإبادة هذه الأرض، كأنّ الجوهرة حتّى تكتمل أسطورتها عليها أن تكون ضائعة. 
لم أكدْ أعرف العجوزَ الزائرة وأنا أقرأ لافتة النَّعي. كان الاسم ممحواً: "لبّتْ نداءَ ربّها زوجة فلان، بنت فلان وأخت فلان. أُمّ الحاج سعدون وفلان وفلان وفلان...".
هكذا تمضي مَن علّمتْ على الأسماء والأعمار، مجهولةً إلى الوادي المجهول. غاديةً بلا رَدّة.

*

مرّةً قالت لي: "كما لكلِّ قلادةٍ عَيْنٌ، ولكلِّ راعٍ نَجْمٌ، فإنّ لكلِّ أُمٍّ أُغنية". 
تسمعها سهوب "الذّهيبات" وهي تلمُّ بناتِها، كلَّ ليلةٍ، ناشجةً:
"خرّبني الماءُ الذي لا يَجيء
والرّجالُ أحرقوا وجوهَنا تحت الشّموس
زماني حقلُ برسيم عاجَلَهُ الجراد
ويدي التي أتعبتِ المناجلَ.. قتلتْني".


* شاعر من العراق

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون