إجرام لا دين له
استهلّ الفرنسيون عامهم الجديد بمجزرة أودت بحياة 12 شخصاً، جلّهم من العاملين معلقين او رسامي كاريكاتور في صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة. وأقدم على ارتكاب الجريمة اثنان على الأقل من الفرنسيين من أصل مغاربي، كما أفادت تحقيقات أولية، لهما ارتباط بمجموعات إرهابية تنشط بمسميات دينية. وقد "تميّز" المجرمان ببرودة أعصاب تليق بالمحترفين، حيث تجلّى ذلك في عودة أحدهم، بعد بدء عملية الهروب من مسرح الجريمة، إلى الشرطي الجريح أحمد ليعالجه برصاصة في الرأس.
جريمة لا مثيل لدلالاتها في تاريخ فرنسا الحديث، ليس لعدد ضحاياها فحسب، بل لرمزية الهدف. فصميم بناء الجمهورية الحديثة في فرنسا قائم على مفهوم حرية الرأي والتعبير. ولم يسبق أن تعرّض العاملون في الحقل الإعلامي لعمل شبيه في بلدهم. وإن دفع صحافيون فرنسيون حياتهم في مواقع خارج الأرض الفرنسية في أثناء تغطياتهم أحداثاً دموية، أو نتيجة خطفهم من عصابات حاكمة أو ظلامية. كما أن غالب الملفات القضائية التي تُرفع في وجه بعض الإعلاميين من المستهدفين من تحقيقاتهم تنتهي في أروقة المحاكم ببراءة الإعلامي. وهذا ما حصل، فعلاً، مع إدارة تحرير هذه الأسبوعية الساخرة، عندما تقدمت جمعيات إسلامية فرنسية بدعاوى ضدها أمام القضاء سنة 2007، بعد أن أعادت نشر رسومٍ مسيئة لرموزٍ دينيةٍ. علماً بأن الصحيفة نفسها لم تتوان عن السخرية من كل المعتقدات السياسية والدينية، كما رموزها، ولم يسبق أن تعرضت لاحتجاج من أصحاب الديانات الأخرى. إلا أن بعض المسلمين، الذين نصّبوا أنفسهم "حماة" لدينٍ، إن هم اعتبروه كاملاً، فهو بالتأكيد، كما رموزه، ليسوا بحاجة إلى أفراد محمّلين بالضغينة والكبت، ليلوذوا عنه وعن ذاكرته وعن أفكاره.
على الرغم من أن الخطاب السياسي العام الذي ساد، في اليومين الماضيين في فرنسا، يدعو إلى التلاحم الوطني والتضامن مع الضحايا، ومع قضية حرية التعبير، مبتعداً عن الاستقطابات السياسوية التي يمكن لبعضهم أن يصطاد في مياهها العكرة، إلا أن أصواتاً متطرفة بدأت بإسماع صوتها، مع قليل من الوجل بداية، لكنها لم تلبث أن تحتّد وتتطرف أكثر في تعليقاتها. وكان أتفه ما عبّر عنها هو نائب الفرنسيين في الخارج الإسرائيلي/الفرنسي، مائير حبيب، الذي اعتبر ما حصل مرتبطاً باعتراف البرلمان الفرنسي بالدولة الفلسطينية، وبالتالي، تابع هذا النائب "الحاد الذكاء"، سيساهم هذا الموقف في "استيراد الصراع العربي/الاسرائيلي" إلى فرنسا، وهذه الجريمة بداياته. وفاجأت مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، الجميع بتصريح "معقول"، دعت فيه إلى الوقوف مع الحكومة في إجراءاتها الأمنية، وإلى عدم الوقوع في فخ المزج بين المسلمين في فرنسا ومن ارتكب هذه الجريمة. لكنها غمزت مع ذلك إلى موقفها من الهجرة ومن الأجانب بطريقة ناعمة للغاية.
ومقارنة بوقع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في المجتمع الأميركي، فإن العداء للأجانب وللمسلمين يمكن أن يتطور بطريقة مختلفة في الحالة الفرنسية. حيث إن تاريخ العنصرية
الأميركية مرتبط بالسود أكثر منه ارتباطاً بأتباع دين ما، أو منطقة جغرافية محددة، وذلك نتيجة انعدام التراكمية الاستعمارية، بأبعادها الثقافية والأنثروبولوجية لدى الأميركيين. وقد تطور الأمر سلباً بعد أعمال القاعدة الإرهابية في ذلك العام. أما فرنسياً، فيبدو أن الوضع سيكون أصعب، نتيجة التركيب التاريخي الحديث للذاكرة الجمعية، لكن يقظة المجتمع المدني، كما قوة دولة القانون، يمكن لهما أن يُشكّلا سدّاً قوياً ضد الانحرافات المتوقعة كرد فعل ساذج بمختلف أنماطها.
في هذه الأثناء، تبعث متابعة كيفية معالجة عدد لا بأس به من وسائل الإعلام العربية للحدث على الاستغراب. فقد وصل الأمر بصحف، مثلاً، إلى أن وضعت في عناوينها كلمة الإرهاب بين معترضتين، للتنصل من تبني هذا التوصيف للعملية الإرهابية بامتياز. وكما أرفقت قنوات خبر بلازمة تبحث عن تبرير، بأن ذكّرت ورددت، بعبارات جوفاء، بأن هذه الصحيفة قد سبق وأن "أساءت لمعتقدات المسلمين". وبالتالي، يكاد يقول المحرر إن ما وقع لها مبرر، ويكاد حتى أن يُثني عليه. وأسوأ من التعبيرات الإعلامية، نجد أن التعليقات التي خرجت بها وسائل التواصل الاجتماعية، وفيها مزيج من الشماتة والتشفي، تُشير لا ريب إلى مرض خطير يضرب أطنابه في مجتمعاتٍ، أوصلها الاستبداد السياسي والظلامية العقائدية إلى مستوى خطير من الانحدار الاخلاقي. فما من فارق يذكر بين من يبارك للدواعش قطع الأعناق ومن يرى في جريمة باريس "انتقاماً للنبي محمد"، كما ورد على لسان أحد القتلة في مسرح الجريمة.
حصلت المجزرة في أثناء اجتماع التحرير للعاملين في الصحيفة، للإعداد لعدد خاص عن العنصرية. ومن المعروف لمن يقرأ، ولا يتعلّق بالعواطف الكاذبة، أن الصحيفة نصيرة لقضايا كل المحرومين والمظلومين. فما أكثر الرسوم التي ساندت فيها القضية الفلسطينية ومقارعة الشعوب العربية المستبدين من مختلف النوعيات. وقد تصدر العدد الأخير، الذي كان معدّاً للتوزيع، رسم يسخر من كاتب فرنسي، صدرت له، في يوم المجزرة، رواية محمّلة بالرهاب من الإسلام اسمها "الخضوع".