إحراج الستّ ميركل وازدواجية المُثل الأوروبية

20 يوليو 2015
(تمثال مينيرفا - متحف أثينا)
+ الخط -

خلال لقاء بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ومجموعة من التلاميذ، في إطار حملة حكومية تحمل عنوان "حوار مع المواطنين"، وصل الدور إلى طفلة سمراء تُدعى ريم، قدمت مع عائلتها إلى ألمانيا منذ أربع سنوات، بعد أن أمضت سنواتها الأولى في مخيّم لبناني للاجئين الفلسطينيين.

شكت ريم بصوت متهدج، وبألمانيّة خالية من اللكنة، من أن عائلتها مضطرّة للعودة إلى المخيّم في لبنان تحت طائلة الإبعاد القسري، بعد أن رفضت السلطات الألمانية منحها حقّ اللجوء.

وما كان من السيدة ميركيل إلا أن أجابت: "أفهم، لكن يجب القول إن السياسة قاسية أحياناً. أنت أمامي، وأنت شخص ودود للغاية، لكن هناك الآلاف والآلاف في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ولو قلنا لهم: بوسعكم المجيء، بوسعكم كلكم ترك أفريقيا للمجيء إلى هنا؛ فلن يسعنا أن نتعامل مع ذلك (...) البعض عليهم الرحيل".

قطعت ميركل كلامها حين انتبهت أن المسكينة أجهشت بالبكاء، فاقتربت منها وهي تردّد بصوت أمومي: "لا بأس، لقد أبليتِ حسناً".

هنا تدخّل المعلق ولفت نظر المستشارة إلى أن الطفلة تبكي لأن وضعها صعب، وليس لأنها تظن أنها لم تبل حسناً في امتحان الكلام أمام رفاقها، فأجابت: "أعرف أن وضعها صعب، لكنني أريد فقط أن أعطيها تغنيجة".

لا أعرف إن كان الأمر مجرّد هفوة، أم أن السيدة ميركل تعتقد فعلاً أن لبنان يقع في أفريقيا. آمل، على الأقل، أنها لا تحسب الفلسطينيين أفارقة قدموا إلى اسرائيل كمهاجرين.

لا ينبغي إساءة تفسير حرج ميركل، فهو عارض وشكلي. ليس سرّاً أن غالبية الألمان والأوروبيين غير متحمّسين، البتّة، للاجئين العرب والمسلمين، وهم لا يمانعون بإعادة ريم إلى بلد على شفير حرب أهلية، كي تقضي بقية أيّامها لاجئة محرومة من أبسط حقوقها في مخيّم/ سجن عمل نظام الوصاية السوري وورثته "الممانعتجيون"، بعد أن ورثوه بدورهم عن لبنان المارونية السياسية، على إبقائه بئراً أمنية موتورة بتصرّفهم.

لكن الأوروبيين يحبّون الشعور،عند النظر في المرآة، بأنهم الأجمل والأنقى، ويرغبون في أن يراهم الآخرون كذلك. ولذا وجب أن تُعالج مسألة ريم وعائلتها في الخلفية، مع بوليس الهجرة ومراكز الترحيل، وليس في الواجهة مع ميركل وهي تؤدّي عرضاً متلفزاً للديمقراطية الألمانية.

ريم أخلطت الأوراق وأربكت الصورة، حينما تسلّلت إلى الواجهة مع رفاقها الشقر الذين كبرت معهم وسألت: "لماذا أنا وليس هم؟"، والحرج الذي أثارته ليس أخلاقياً، بل يمكن مقارنته بذاك الذي يثيره الأطفال الغجر، المتسوّلون حينما يقتربون من المطاعم البرلينية الفارهة.

الحادثة تلقي، كذلك، ضوءاً على طبيعة الأخلاقية الأوروبية المصمَّمة على مقاس المصالح وتوازن القوى. ميركل التي صرّحت مراراً بأن في ذمة ألمانيا دَيناً أبدياً حيال دولة "أبرتهايد" تفوقها غنى وتملك ترسانة نووية مثل إسرائيل (ما يفترض به أن يبرّر الدفاع اللامشروط عن جرائم هذه الأخيرة في المحافل الدولية)، تعتبر أنها لا تدين بشيء لريم.

بنظر ميركل، ألمانيا ستبقى للأبد مدينة لأحفاد وأحفاد أحفاد ضحايا النازية السابقين من اليهود الأوروبيين ويهود الدولة التي أنشؤوها على حساب آخرين، لكنها لا تدين بشيء لضحاياهم الذين لا زالوا يعانون الأمرّين، إلى حد اليوم، بسبب التواطؤ والدعم الغربي اللامشروط لجلاديهم.

من جهة أخرى، لا أذكر أنني سمعت سياسياً أوروبياً واحداً يصرّح بأن أوروبا مدينة بشيء للغجر، مع أن النازيين لم يفرقوا بينهم وبين اليهود في المعاملة وتتساوى نسبة من أُرسلوا إلى معتقلات الإبادة لدى الفئتين.

على العكس، فإن يتامى المحرقة هؤلاء لا زالوا كبش محرقة الساسة الأوروبيين الذين لا يتورّعون عن "استوطاء حائطهم" والتحريض عليهم عند كل استحقاق انتخابي، عدا عن التجاوزات والممارسات العنصرية الروتينية بحقهم.

لا عجب، فالغجر بقوا بعد المحرقة شريدين طريدين في أوروبا، ولم يقتدوا بأقرانهم "الييديش" الذين هاجروا لتأسيس كيان استعماري في المنطقة العربية والترويج لأنفسهم بوصفهم قاعدة متقدمة للغرب.

نعم يا ست ميركل، يسهل التعاطف مع القوي النافذ الذي يضع الكونغرس الأميركي في جيبه، في حين يصعب مع الضعيف المُعدم والمطروح أرضاً.

أخلاقية مزدوجة كهذه، فيها ما يشبه المصداقية الأوروبية الغالية على قلبك في الوفاء بالالتزامات والتعهدات مع نصّابي القطاع المالي ومحتاليه الكبار.

خذيها يا ست ميركل من عربي أمضى عمراً في دراسة الفلسفة الألمانية والأوروبية، وأولى الثقافة الغربية اهتماماً يفوق بأشواط ذاك الذي أعطاه لثقافته الأم: طالما يظل الغرب يكابر على الإقرار بأن حياة طفل اسرائيلي لا تساوي أكثر من حياة طفل فلسطيني أو غجري. وطالما يظل يكابر على الاعتراف بأن ريم وأقرانها من مختلف الجنسيات هم الأحفاد الفعليّون للاجئين "الييدش" الذين أُرسلوا إلى أوشفيتز، وليس الأطفال الإسرائيليون المدلّلون الذي يلقمهم أهلهم الاحتقار والعنصرية منذ نعومة أظفارهم ويسعهم القدوم إلى أوروبا أو أميركا وقتما شاؤوا، طالما يستمر هذا الرياء، فلن تكون ادّعاءات التفوق الأخلاقي والسمو الإنساني الأوروبية سوى ديكور ليس أكثر إقناعاً من "تغنيجك" لريم.


* كاتب لبناني مقيم في باريس

المساهمون