قبل أيام، سجّلت "يونيسكو"، مدينة الخليل، ببلدتها القديمة والحرم الإبراهيمي، على لائحة التراث العالمي الذي تجب حمايته والمحافظة عليه، وسط موجة كبيرة من احتجاج الاحتلال الذي يريد أن يسرق المدينة بمعالمها وتراثها، وأن يطمس هويتها العربية.
المهمة أمام العالم صعبة، والتحدي كبير ومُعقّد، في ظل النسيج الاستيطاني الذي يفتك بنسيج المدينة المعماري الذي يعود للعهد المملوكي القديم. فاللغة الأم في المدينة القديمة باتت العبرية، بعد أن كانت تتحدث بالعربية هي وجدرانها ومعالمها القديمة.
ومن المفترض بعد القرار العالمي الأخير لـ"يونيسكو"، الذي يعتبره الفلسطينيون قراراً استراتيجياً ومهماً، أن يحمي العالم الخليل القديمة، وأن يحافظ على هويتها، من تسونامي الاعتداءات الإسرائيلية، التي تستهدف الإنسان والمكان في المدينة.
"يونيسكو" ليست قوة عسكرية لحماية المدينة، وإنما يمكن لقرارها أن يشكل نقطة ضغط على سلطات الاحتلال، عبر المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، كي لا يمس بالمدينة وتراثها.
من جهته، قال مدير عام جنوب المحافظات الشمالية في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، أحمد الرجوب، لـ"العربي الجديد"، إن دولة الاحتلال أصبحت اليوم تحت المسؤولية الدولية، وتتحمل المسؤولية الكاملة أمام العالم، في حال اعتدت على التراث العالمي في مدينة الخليل الذي أصبح الفلسطينيون مؤتَمنين عليه ومسؤولين عن المحافظة عليه وترميمه.
وأضاف الرجوب أن الحديث اليوم هو عن محاصرة دولية للاحتلال الإسرائيلي، والذي دوما يتنكر لكل القرارات الدولية، سواء كان موقّعا عليها أم لا، فهو كيان يعتبر نفسه فوق القانون الدولي.
ورغم أن مدينة الخليل أصبحت موقعاً محمياً، وفق الاتفاقيات الدولية التي وقّع الاحتلال الإسرائيلي عليها، لكن عنجهية الاحتلال لا تحترم أي معايير دولية ولا محلية، لا سيما أن الحماية الدولية لليونيسكو رمزية، والاحتلال الإسرائيلي سوف يتصرف بشكل أسوأ من السابق، وهذا ما تدل عليه تصريحات بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة.
ويشرح الرجوب: بعد قرار يونيسكو، فإن دولة الاحتلال عملياً ووفق هذا القرار والتسجيل العالمي، لا تستطيع أن تقوم بشيء كقوة محتلة، وأن "أهمية القرار تكمن في اعتراف المجتمع الدولي بأن هذا التراث تراث عالمي موجود في فلسطين، وفلسطين مؤتمنة عليه، والاحتلال هو عبارة عن قوة محتلة، وأن أي اعتداء أو نشاط باطل وغير قانوني، وفق هذا المعيار".
ولفت إلى أن "يونيسكو" ليست قوة أمنية لمنع الاحتلال الإسرائيلي من الاعتداء، وأن الفلسطينيين أيضا لا يستطيعون، لكن بشرعية القرار أصبحت هناك خطوط حمراء لهذا الموضوع، لا سيما أن الاحتلال الإسرائيلي وقّع على اتفاقية التراث العالمي، وهي ملزمة بالحفاظ عليه كتراث إنساني.
والمطلوب من "يونيسكو"، في الوقت الحالي، تنظيم زيارات لمدينة الخليل، للتأكد من أنها مدينة تحافظ على تراثها وأصالتها وعراقتها، وللتأكد من سلامتها، وأي اعتداء يمسّها، يعتبر اليوم من مسؤولية يونيسكو.
وتعتبر الحماية التي يمكن أن يشكلها قرار يونيسكو رمزية أيضا بحسب الرجوب، وعلى سبيل المثال القدس مدينة مسجلة وفق تراثها، لكن عمليات الحفر والاعتداءات وتغيير المعالم ما زالت متواصلة ومستمرة، لكن العالم اليوم يشكل ضغوطات على الاحتلال الإسرائيلي بغرض وقفها، وثمة من يدينها بكثرة.
ويضيف الرجوب أن القدس كانت تختلف عن الخليل قبل القرار، لأنها كانت تحت الأضواء، وقرار يونيسكو جعل الخليل تحت الأضواء أيضا، كون المجتمع الدولي ينظر اليوم إلى الخليل كجزء من تراثه الإنساني، وأي اعتداء على المدينة يمكن إبرازه فلسطينياً أمام كل دول العالم، والتي سوف تحتجّ على تلك الاعتداءات وتطالب بوقفها بضغط دولي، بحسب الرجوب.
وينتظر الفلسطينيون من العالم، دعم هذا الموقع، والضغط على الاحتلال لحماية تراث المدينة، وأيضا دعمه المعنوي والمادي للحفاظ على قيمته العالمية، بينما يُطلب من الفلسطينيين، وفق الرجوب، المحافظة على هذا التراث، وترميمه، والترويج له عالميا، وتنشيط السياحة إليه، وكذلك فضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي لدى يونيسكو، كي تتخذ الخطوات اللازمة لوقفها.
من جهة أخرى، ورغم القرار العالمي لليونيسكو، فإن الخليل مدينة تراثية فلسطينية، الأمر على أرض الواقع مختلف جدا ومعقد، فالمدينة القديمة والحرم الإبراهيمي، على حد تعبير الرجوب، مرتعان لقطعان المستوطنين وجنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين يعرف العالم كله أنهم غيّروا بوجودهم وممارساتهم المعالم العربية في المدينة وطمسوا هويتها.
ويعيش في قلب الخليل أكثر من 500 مستوطن، موزعين على خمس مستوطنات ذات المباني الحديثة، أي التي تتنافى مع عراقة المدينة وأقدميتها وعمارتها المملوكية، وهذا ما غيّر معالمها التراثية. ويحمي هؤلاء المستوطنين أكثر من 2000 جندي ينكّلون بأهل المدينة ويقطعون نسيجها الجغرافي والاجتماعي.
كما تنتشر في قلب المدينة عشرات الحواجز العسكرية، وهو ما يشوه الصورة الجمالية للإرث العالمي، مهمتهم التنكيل بالفلسطينيين، ومنعهم في بعض الأحيان من الوصول إلى منازلهم، أو ترميمها، أو البناء فيها، وكذلك منع الزوار من الوصول إلى أقاربهم الذين ما زالوا يعيشون في أحيائهم بالمدينة.
كذلك يسيطر الاحتلال على أكثر من 63 في المائة من الحرم الإبراهيمي، الذي ضمته يونيسكو إلى لائحة تراثها، فيه بركة السلطان التي أصبحت مكباً للنفايات، وثمة استراحة يحاول المستوطنين تهويدها وتحويلها إلى مغطس تلمودي حسب معتقداتهم.
ويريد نتنياهو وحكومته إقامة متحف للتراث اليهودي في المدينة، ومنتزه أثري يهودي في قلب حي تل رميدة، والكثير من المشاريع الاستيطانية، التي شوّهت وطمست الصورة الإسلامية التراثية فيها، والشيء الأكبر هو محاولة الاحتلال تغيير الرواية العربية في المدينة، وتشويهها وتحويلها إلى رواية تلمودية يهودية تراثية.
كما يغلق الاحتلال أسواقا في المدينة، وشوارع، وأحياء بأكملها، ويمنع الفلسطينيين من ترميم منازلهم، ويشجع التوسع العمراني للمستوطنين الذين سرقوا المنازل الفلسطينية تحت تهديد السلاح. وعلى مرأى من العالم، تمارس سلطات الاحتلال الإسرائيلي قوتها على المدينة وتراثها وتقتل أهلها. فكيف سيحمي القرار، التراث العالمي، من سرطان الاستيطان وفتك جنود الاحتلال وقوة السلاح؟