إدلب اليوم بعد تحريرها
تتباين الآراء حول مصير إدلب بعد "تحريرها"، أعني بعد وقوعها بيد جبهة النصرة! الطرف الأقوى في الفصائل العسكرية المسلحة التي دخلت مدينة إدلب. وتتوارد الأنباء عن بعض الارتكابات، وإن قلل بعضهم من شأنها، قياساً إلى ما ارتكبته وترتكبه القاعدة والنظام على السواء بحق المواطنين المدنيين، وهذا التقليل مأساة لما آل إليه الشعب السوري.
المهم: ثمة أنباء عن قتل عائلةٍ مسيحيةٍ، بحجة بيعها الخمور، وكأنَّ حد القتل هو ما نص عليه الشرع الإسلامي بحق بائع الخمر أو شاربه، وكأن بيع الخمر، أيضاً، محرَّم على المسيحي، وكأنَّ المسيحي، كذلك، قد توقف عن شرب الخمر طوال فترة حكم الدولة الإسلامية. وأخيراً، كأن دين الإسلام الحنيف يبدأ، اليوم، بجبهة النصرة. ومن الارتكابات "قليلة الشأن" أخذهم الأب إبراهيم فرح للتحقيق معه، وإن يكن بدون إيذاء، بحسب شهود عيان. لكن الأسوأ في ما ارتكبته النصرة، هو إهداء أحد قادتها "نصره" إلى الدولة "الإسلامية"، ما يشير إلى أن الدولة الإسلامية في العراق والشام قدوة ومثال للنصرة. أما ثالثة الأثافي فتحطيمهم تمثال الشخصية الوطنية الأبرز في تاريخ سورية الحديث، إبراهيم هنانو. ودعواهم، أو دعوى من يبرر لهم، أنهم لم يميزوا بينه وبين تمثال حافظ الأسد. وهذا، في اعتقادي، عذر أشدُّ سوءاً من ارتكاب الذنب نفسه، إذ يشير، من دون أدنى ريب، إلى جهل كبير بتاريخ الأمة السورية القريب، بل إلى أمية وطنية لا تغتفر.
لن أتحدث عن شخصية هنانو، وما ترمز إليه من معان وطنية وإنسانية. ولا إلى إهداء ذلك النصروي "نَصْرَهُ" في مدينة إدلب إلى القاعدة التي ارتكبت الفظائع في مدينة الرقة، وفي غيرها من المدن والبلدات السورية التي سيطرت عليها، فهذه المعلومات صارت من البديهيات في أذهان الجميع. لكنني أود الإشارة إلى أنَّ الثوار الأوائل الذين ملأوا الساحات السورية، منذ أربع سنوات، وما كان في أيديهم قطعة سلاح واحدة، وتلقوا رصاص النظام وأدوات شبيحته القاتلة دونما خوف، ولا تراجع، كان شعارهم إحياء القيم الوطنية والمدنية التي أتى بها إبراهيم هنانو، أحد أهم أقطاب الكتلة الوطنية التي وضعت اللبنات الأولى للدولة المدنية الديمقراطية، الدولة التي محاها "البعث" بقسوة عسكره، وضلال شعاراته.
ولم يكن العلم الذي رفعه متظاهرو ثورة طلاب الحرية وشبابها إلا علم الاستقلال الذي صاغت ألوانه الكتلة الوطنية. وليس من دواعي الاستطراد، الآن، الذهاب إلى أهداف الحزب الوطني الذي انبثق عن تلك الكتلة الوطنية، بل للتأكيد على الثورة وغاياتها النبيلة، وعلى التراث الوطني السوري اللافت في صدقه وغناه. إن أهم الأهداف التي رآها الحزب الوطني، في ثلاثينيات القرن الماضي، هي "الحرية التامة للمواطنين السوريين، ومكافحة سياسة التجهيل والخداع والاضطهاد الفكري والمادي. ويعتبر الحزب أن حرية الإنسان السوري هي حرية مقدسة غير منقوصة، ولا مشروطة في المجالات كافة، وحتى لو كانت تلك الحرية لا تتفق مع الحزب في أطروحاته وأفكاره، فسيعمل هذا الحزب على صونها وتقويتها، لأنها هي أساس كل إبداع". والعدالة هي الهدف الثاني، والثالث مساواة كل الأعراق والديانات والطبقات الاجتماعية المكونة للشعب السوري.
المراد من قول ما سبق أن الشعب السوري لم يثر إلا من أجل حريته وكرامته التي هدرها الاستبداد السياسي والمالي والفكري، وإلى حد كبير الاجتماعي. نعم، لم تأت ثورة الشباب إلا من أجل سورية الأفضل والأجمل والأرقى، سورية الواحدة الموحدة، بكل أطيافها وطوائفها، بكل تكويناتها الدينية والقومية، بكل تياراتها السياسية، سورية المواطنة الحقة، سورية العدالة المساواة.
وإذا كان حزب البعث الذي امتلك البلاد السورية، بعسكره وأجهزته الأمنية المتعددة التي فاقت عدد الجامعات السورية ومشافيها الكبيرة، قد استطاع، سنين طويلة، أن يدوس ذلك التراث الوطني المشرِّف، تحت شعارات براقة، لم يستطع، في الواقع العملي، أن يطبق أدنى شعار فيها، بل إنه، على العكس، فاقم الفقر بين المواطنين، وعمَّق الفرقة بين العرب، وزاد في الهوة بين الشرائح الاجتماعية اتساعاً، ومكَّن الأقارب والشركاء من استباحة المال العام، وعجز عن تحرير الأراضي السورية المحتلة، وهذا الأهم، على مدى أربعين سنة، تماماً كما عجز عن تأمين رغيف نظيف للمواطن في دولة عريقة، يفخر أبناؤها بأنهم زرعوا أول حبة قمح في التاريخ، دولة لم يتعامل معها إلا على أساس أنها مزرعة خاصة. أقول إذا كان البعث قد فعل ذلك كله، وعاد بالأمة السورية إلى الوراء، فالشعب السوري ليس بحاجة، الآن، للعودة إلى وراء الوراء، والدخول في ظلام التاريخ! فهل يقوم الثوار الواعون بعملٍ ما، لجلاء حقيقة ثورتهم، ولبيان أنها نهوض وسمو، وليست أضغاناً وأحقاداً؟