تفنّنت وسائل الإعلام الفرنسية الرسميّة، عدا القليل النادر، في ابتكار تسميات عجيبة تشير بها إلى الإرهابي الأسترالي برينتون هاريسون تارانت. فقد صاغت سيلاً من خيارات المعجم وغرائب العبارات، فقط حتى تتجنب استخدام صفة "الإرهابي"، وحتى تظلّ هذه الأخيرة حكرًا على المسلمين وبهم لَصيقة، كأنها من جوهر ديانتهم ومحددات المؤمنين بها. ففي المشهد الثقافي الفرنسي، ترسّخ اقتران الإرهاب بالإسلام بفعل وسائل إعلامه، إلى درجة أنَّ وصمَ غير المسلمين به يكسر بداهة هذا الاقتران ويفسد ما دأب عليه "مثقفو" النزعات اليمينية من التبسيط في فهم هذه الظاهرة وربطها الآلي بالمسلمين.
وقد خضع مسار التسمية هذا إلى مبدأ واحد: إخراج هذه المذبحة المروّعة من حيز الإرهاب وإلحاقها بدائرة الجرائم العامة، بل والتافهة، وجعلها نتيجة "أمراض نفسية" أو "انتماء فكري". فقد اعتُبر الإرهابي suprématiste، هكذا في تسميةٍ، لا أمكرَ منها صوتيًا ولا دلاليًا، من أجل التعمية والإبهام. فالكلمة، وهي مقترَضة من الإنكليزية، تحيل على شخصٍ يؤمِن بهيمنة البِيض وتفوّقهم على سائر الأعراق والجماعات. ولذا يذهب الذهن، لدى سماع الكلمة، مَذاهبَ شتى تائهًا في البحث عن معنى الوصف ومرجعياته، مما يباعده عن الاسم الأدق: "إرهابي". وهكذا تلعب البنية السيمائية للكلمة دورًا في تبرئة القاتل، بل وإعطائه ضربًا من الشرعية والتبرير.
كما عمدت هذه الوسائل إلى استحداث جدولٍ معجمي متعدد، صوَّر من خلاله القاتل "معتوهاً"، "مجرماً"، "قاتلاً بِالجُملة"، "عنصرياً"... وما إلى ذلك من الأسماء والعبارات التي تشير إلى الجريمة ولكنها تبرّئ ساحة مرتكبها من وصمة الإرهاب، بما هو ترويع للناس استناداً إلى منظومة إيديولوجية فاسدة.
من جهة أخرى، وإتماماً لعمل التسمية الـمُضلِّل، لم تُخصص جلُّ القنوات والإذاعات الفرنسية، ولا سيما "فرانس-إنفو"، ولعلها أهمها، سوى مساحة ثانوية لهذه المجزرة. ذلك أنَّ المساحة فيها لم تفتر تَضيق إلى أن التحقت بالعناوين الفرعية، ثالثاً فرابعاً، حتى غابَ الحدث الأليم يومَ السبت، كأنْ لم يكن بالأمس، لحساب مُظاهرات السترات الصفر وغيرها من مشاغل الفرنسيين، في حين أنّ هذا الإعلام يظل يصب الزيت على نار العمليات الإرهابية التي ترتبط بمتشدّدين إسلاميين أياماً وأسابيع.
وأخيراً لعب الإعلام، مدعوماً هذه المرة بالسلطة السياسية، على حذف الفيديوهات وتعتيم صورة الإرهابي وهو في المحكمة، والضنّ بأية تفاصيل عن مُجريات محاكمته وفحوى الرسالة التي وجهها للحكومة، فضلاً عن عدم تحليل أسباب الجريمة البشعة على البلاتوهات والمنابر الإعلامية، مع غياب تام "لخُبراء" الشأن الإسلامي الذين ابتلعوا جميعاً ألسنتهم... تواطؤٌ سافر لا غاية له سوى الحفاظ على صورة الغرب المتحضر، مدافعاً عن قيم الانفتاح والحداثة. وبِدهاء جَمعيٍ بالغ، عمل ثالوث الإعلام والثقافة والسياسة على عدم فكّ الارتباط بين الإرهاب والإسلام، وضبط إيقاع الآلة الإخبارية حتى يظلّ هذا الارتباط المتخيل قائماً وفاعلاً لدى المتابعين ــ المستهلكين.
ولهذه التواطؤ بعدٌ ثقافي أكيد يحرّكه، وهو الصراع الخفي بين ثقافتيْن، كلتاهما تنافس الأخرى في امتلاك رأسمال رمزيٍ، سَداه التحضر. ترمي كلّ ثقافة غيرَها بتهمة الإرهاب وتخفي، إن حصلتْ في ديارها، آثارَها حتى تظلَّ صورتها الحضارية مشرقة، ولو تضليلاً. فشل الغربُ في هذه المعركة حين رسّخ سياسة الكيل بمكيالين، ولم يوفر للجمهور الفرنسي مادة تحليلية وافية تمكنه من إدراك الأبعاد العميقة للمجزرة التي قد يطاله شَرارُها.
تمثلت خيانة الحقيقة هذه المرة في التلاعب بتسمية الإرهاب القاتل والرقص على رقعة التسميات والأوصاف. لم توضع المقتلة في مكانها الحقيقي: الإرهاب. تطايرت القِطع وتراقصت بين خانات بعيدة، كأنما لتلهي المتابع وتشتّت منه الانتباه، ريثما يحرقه الأوارُ المتطاير.