26 سبتمبر 2018
إسبانيا وأزمة تشكيل حكومة وطنية
توشك إسبانيا على خوض انتخابات برلمانية جديدة، للمرة الثالثة خلال عام، وفقًا لتصريحات رئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال، ماريانو راخوي، بعد أن فشل الحزبان، الشعبي والاشتراكي، في التوصّل، حتى اللحظة، إلى صيغة تفاهم مقبولة، لتشكيل حكومة وطنية مستقرة. فشل الحزب الشعبي اليميني المرشّح الرئيس لتشكيل الحكومة في الحصول على ما يكفي من الأصوات لتحقيق ذلك، في الانتخابات البرلمانية الأولى في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والثانية في يونيو/ حزيران 2016، كما رفض الحزب الاشتراكي العروض المقدّمة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وبالتالي التخلّص من هذه الأزمة. وكان الحزب الشعبي قد نال 137 مقعدًا في الانتخابات الثانية من المجموع العام للبرلمان الإسباني البالغ تعداده 350 مقعدًا، في وقت نجح "الاشتراكي" بالحصول على 85 مقعدًا.
الحزب الاشتراكي يفضّل المعارضة
يبدو شأن عقد انتخابات برلمانية جديدة في هذه الوضعية عبثياً وغير مجدٍ، ولن يثمر عن نتائج سوى هدر الوقت والمال، فالحزب الشعبي الإسباني هو القوّة الأولى في البلاد، وليس متوقعاً تغيّر هذه المعادلة، في الوقت نفسه، لن يتمكّن هذا الحزب من الفوز بالأغلبية المطلوبة لتشكيل حكومة أقلية. ويذكر أنّ الملك فيليبي السادس كان قد طلب من رئيس حكومة تسيير الأعمال، ماريانو راخوي، بذل الجهود، وإجراء محاولة ثانية لتشكيل حكومة نظامية قوية. ووافق راخوي على قبول المرسوم الملكي، لكنّه أوضح أنّ إمكانية تعثّر تشكيل حكومة ائتلافية ما تزال قائمة، إذا رفضت الأحزاب المعارضة تقديم الدعم في أثناء التصويت على منح الثقة في البرلمان الإسباني، وإصرارها على الإبقاء على مواقفها من دون تقديم أيّة تنازلات عملية.
ترك الزعيم اليميني راخوي الأبواب مشرعة أمام الزعيم اليساري، بدرو سانشيز، للتوصّل إلى اتفاق بشأن تشكيل الحكومة، موضّحًا أهمية ذلك على الصعيدين، الوطني والدولي، لكن اللقاء لم يثمر عن أيّ نتائج إيجابية، لتبقى الفرصة متاحةً لعقد انتخابات برلمانية ثالثة، حسب صحيفة الباييس، الأمر الذي بات يقلق الاتحاد الأوروبي، باعتبار إسبانيا القوّة الاقتصادية الرابعة بعد قرار خروج بريطانيا من إطار المنظومة الأوروبية، وليس من المقبول الإبقاء على الفراغ الحكومي الرسمي في هذا البلد.
قبل عقد اللقاء المشترك مع الزعيم اليميني، صرّح سانشيز أنّ الحزب الاشتراكي هو البديل عن الحزب الشعبي. لذا، لن يشارك في تشكيل حكومة ائتلاف عريضة، ولن تشارك الكتلة اليسارية
في مسار سياسي، تصرّ على تغييره، والتخلّص من حكومة راخوي. لذا سيصوّت الحزب الاشتراكي ضدّ منح البرلمان ثقته للحزب الشعبي، لتشكيل حكومة جديدة. تجدر الإشارة إلى أن تراجع مؤشرات الاقتصاد الإسباني، ولجوء الحكومة إلى اتخاذ سلسلة من التدابير المرتبطة برفع معدّلات الضرائب والرسوم، أدّيا إلى مواجهة مفتوحة بين اليسار واليمين في إسبانيا، وإلى عقد انتخابات برلمانية مبكّرة في ديسمبر/ كانون الأول 2015، لحسم هذه القضية من دون طائل. كما تواجه الأحزاب السياسية الإسبانية، بمختلف أطيافها، ضغوطاً عديدة للتوصّل إلى صيغة تفاهم وطنية للخروج من هذا المأزق، على ضوء التحدّيات الجديدة، وفي مقدمتها قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأثره على أمن دول نادي اليورو واستقرارها.
تحديات اقتصادية
التحديات الاقتصادية باقية أمام أيّة حكومة مقبلة، ويصعب التغلّب على العجز المالي وتراجع النمو الاقتصادي، من دون اتخاذ إجراءاتٍ عاجلة، مثل شدّ الأحزمة وإصلاح ميزان الصرف في القطاع العام، ودعم الاستثمارات الأجنبية والحدّ من البطالة، وهذا يصبّ في صالح الأحزاب اليمينية الداعمة هذه التوجّهات، من دون الخضوع لمطالب الأحزاب الأخرى، لتخفيف حدّة القيود الاقتصادية. تشير البيانات إلى ارتفاع معدّل العجز المالي في الموازنة العامة إلى قرابة 5% من قيمة الدخل القومي، في وقت يسمح فيه الاتحاد الأوروبي بنسبة لا تزيد على 3% فقط لكامل دول المنظومة، تحت طائلة المسؤولية، وإمكانية فرض عقوبات إدارية مختلفة. عدا عن ضرورة تحسين العلاقات مع الحكومات الإقليمية المختلفة، بشأن جدولة توزيع الدخل فيما بينها، والأسباب الاقتصادية تحديدًا هي التي دفعت تجاه انفصال مقاطعة كتالونيا عن إسبانيا، وعلى الحكومة المقبلة التعامل مع كل هذه التحديات في ظلّ انعدام بدائل واقعية، تسمح بانتهاج سياسةٍ يساريةٍ متسامحةٍ نسبيًا بالشأن الاقتصادي.
على أيّة حال، يبقى شأن تصدّر الحزبين الرئيسيين قائمة نتائج الانتخابات ضمانةً لاستقرار
إسبانيا حسب "رويترز"، بدليل تحسّن أداء البورصة في مدريد، حيث ارتفع مؤشّر IBEX إلى 3%، ويرى الخبراء أنّ الفضل في هذه البيانات يعود إلى النتائج الجيدة التي حصل عليها المحافظون في الانتخابات الإسبانية، الداعمة لحزمة الإصلاحات الاقتصادية في البلاد.
تراجعت المفوضية الأوروبية عن نياتها بشأن فرض غرامات قاسية ضدّ إسبانيا والبرتغال، بسبب ارتفاع معدّل العجز المالي لديهما، وأخذت بروكسل تبحث عن آليات أخرى لمواجهة مظاهر تراجع نمو الاقتصاد الأوروبي، الأمر الذي بات في منتهى الأهمية، إثر القرار البريطاني. ويُذكر أنّ المفوضية لم تصدر، حتى اللحظة، أيّة عقوباتٍ تجاه الدول التي تعاني من تضخّم وعجز مالي يفوق الحدّ الأعلى المعلن، وكان من المتوقع أن تبلغ قيمة العقوبات 0.2% من قيمة الدخل القومي لكلّ من البلدين، ومنعهما من الحصول على مساعدات الصناديق الأوروبية، اعتباراً من العام المقبل 2017. لكن، في ظلّ الظروف الراهنة تراجع الاتحاد الأوروبي عن آليات العقوبات المالية المباشرة حلّاً رادعاً.
تراجع مكانة حزب الانفصاليين
كان من المتوقع فوز حزب بوديموس بالمرتبة الثانية، بعد الحزب الشعبي في الانتخابات البرلمانية أخيراً، لكنّه فاز بالمرتبة الثالثة بعد الحزب الاشتراكي، وقد حاول كسب ثقة الشعب تقديم وعود بالتخلي عن سياسة شدّ الأحزمة، لتخطّي العجز المالي، ودعا كذلك إلى عقد استفتاء شعبي لاستقلال كاتالونيا عن إسبانيا كما بريطانيا، لكنّ هذه الوعود الشعبوية لعبت دورًا سلبيًا، خصوصاً بعد نجاح الاستفتاء البريطاني، ما يعني كذلك عدم رغبة الشعب الإسباني خوض تجارب انفصالية جديدة، وعدم قناعته بجدوى الوعود بمستقبل مشرقٍ، من دون اتخاذ تدابير وحزم اقتصادية، قادرة على الحدّ من تراجع النمو الاقتصادي في إحدى الدول المهمة في المنظومة الأوروبية ونادي اليورو.
الخيارات التي يملكها رئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال محدودة. يمكنه، بالطبع، تشكيل حكومة تحالف عريضة للحصول على ما يزيد على نصف عدد أصوات نواب البرلمان، لكن هذا يعني كذلك التعرّض لمشاريع متتالية لحجب الثقة في كلّ مناسبة ممكنة، كما هو الحال في دول أوروبية أخرى، أو المضيّ في تنظيم انتخابات برلمانية جديدة، في ظلّ رفض المعارضة التعاون مع اليمين الإسباني.
فاز الحزب الشعبي بنسبة 33%، ما يعادل 137 نائبًا في الانتخابات التي شارك فيها نحو 24 مليون مواطن إسباني، وتدل هذه النتيجة، على الرغم من عجزها عن تمكين الحزب من تشكيل حكومة أقلية، تدلّ على أنّ الناخبين غير راغبين بقبول مغامراتٍ يساريةٍ جديدة، ويفضّلون التعامل مع الواقع بموضوعية. وتشير النتائج كذلك إلى تراجع الثقة بحزب بوديموس الذي خاض مظاهرات كبيرة ضدّ البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية، من دون أن يقدّم حلولا عملية لحلّ هذه المشكلات الأصولية. وقد فاز تحالف حزب بوديموس واليسار الموحّد بنسبة 13.05% ما يعادل 71 نائبًا فقط والترتيب الثالث بين الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، بعد الحزب الاشتراكي الذي فاز بنسبة 22.66% بواقع 85 نائبًا. وحصدت الأحزاب الكبرى حصّة الأسد من أصوات الناخبين، وأبقت على عدد قليل من المقاعد البرلمانية للأحزاب الصغيرة، إلا أنّ الأخيرة قادرة على ترجيح كفّة أي تحالف سياسي مقبل، يسعى إلى تشكيل الحكومة التي يرغب بها الملك، حسب البروتوكول والدستور الإسباني.
ضرورة تسريع تشكيل حكومة مستقرة
ترى أوساط سياسية أوروبية عديدة أنّ هناك ضرورة لتسريع تشكيل حكومة ائتلاف بصورة
عاجلة، لأنّ المشكلات التي تواجه إسبانيا عديدة، وتحتاج عملية إصلاح واسعة، كالحدّ من البطالة المرتفعة، وخفض مستوى العجز المالي، وإيجاد صيغة تفاهمٍ لتفادي مطالب انفصال مقاطعة كاتالونيا عن إسبانيا، الذي يضمن قرابة 19% من قيمة الدخل القومي في إسبانيا.
يتمثل الهدف من الانتخابات في أيّة دولة برلمانية بتشكيل حكومة مستقرة، ولا بدائل أمام القادة الإسبان سوى الجلوس إلى طاولة المحادثات، للتوصّل إلى صيغة تفاهم لتشكيل حكومةٍ قادرةٍ على اتخاذ القرارات المهمة، الأمر الذي يتعذّر على حكومة تسيير الأعمال، برئاسة ماريانو راخوي، وليس متوقعاً تحوّل الاستقطاب الراهن والنظام السياسي الثنائي ما بين اليمين واليسار، لكن الإبقاء على حالة المواجهة السياسية الدائمة، من دون الخضوع لرغبة الشعب ووضع إطار لاتفاقية تفاهم تضمن الحدّ الأدنى من الأهداف الوطنية، للخروج من حالة الفراغ، البرلماني والحكومي، التي استمرّت أشهرا عديدة، بات مرفوضًا. يبدو أنّ راخوي والزعيم الليبرالي، رئيس حزب ثودادانوس، ألبرت ريبيرا، قد أدركا هذه الحقيقة، وهناك إمكانية لتشكيل حكومة ائتلافية واجتذاب الأحزاب الصغيرة التي فازت ببعض المقاعد البرلمانية، لترجيح الكفة والحصول على ثقة البرلمان المرتجاة منذ بداية العام الحالي 2016، وإسبانيا، كما هو معروف، قدّمت أمثلة عديدة على السلبية واللامبالاة السياسية في القارة الأوروبية، وكل الحلول متوقّعة وممكنة في هذه الدولة العريقة.
الاتحاد الأوروبي والأزمة الإسبانية
يرى الاتحاد الأوروبي أنّ تنامي الشعبوية السياسية وتقديم الوعود السخية لا يبشّران بخير، بعد أن رفضت إسبانيا قبول التوصيات المالية والسياسية الأوروبية وتنفيذها، الأمر الذي قد يتسبب بفقدان القدرة على التحكّم بمنظومة نادي اليورو. وقد صرح زعيم حزب بوديموس، بابلو إغليسياس، مراتٍ، أنّ إسبانيا تعاني من التسلّط الاقتصادي البشع للاتحاد الأوروبي، لكن الوقائع تشير إلى غير ذلك، فإسبانيا لم تخضع، كما اليونان والبرتغال، إلى حقن مالية عملاقة مباشرة لإنقاذها من الإفلاس، بل حصلت على قروضٍ ميسّرة، لإنقاذ نظامها البنكي المتعثر، ولم يحضر مندوبون عن الثلاثية (صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية) لممارسة أيّة ضغوط على الحكومة الإسبانية.
ويدرك الاتحاد الأوروبي جيّدًا أنّ الحزب الشعبي اليميني وحده هو الذي اتخذ آلياتٍ عمليةً لرقابة ميزان الصرف، ودعا إلى وقف هدر أموال الدولة، وتسريع العمليات الإصلاحية، في وقتٍ حوّل فيه "بوديموس" الاتحاد الأوروبي إلى عدو محتمل لإسبانيا.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ارتفع نفوذ الدول الراغبة برفع مديونيتها الخارجية بالحصول على مزيد من القروض المالية، وسيصبح من الصعب على ألمانيا وهولندا وفنلندا وأيرلندا بصفتها دولاً متطورة اقتصاديا، المحافظة على الاستقرار السياسي والمالي ما بين الدول الأعضاء الغارقة بالديون الخارجية، وغير القادرة على الحدّ من العجز المالي المستمر في موازناتها السنوية.
الحزب الاشتراكي يفضّل المعارضة
يبدو شأن عقد انتخابات برلمانية جديدة في هذه الوضعية عبثياً وغير مجدٍ، ولن يثمر عن نتائج سوى هدر الوقت والمال، فالحزب الشعبي الإسباني هو القوّة الأولى في البلاد، وليس متوقعاً تغيّر هذه المعادلة، في الوقت نفسه، لن يتمكّن هذا الحزب من الفوز بالأغلبية المطلوبة لتشكيل حكومة أقلية. ويذكر أنّ الملك فيليبي السادس كان قد طلب من رئيس حكومة تسيير الأعمال، ماريانو راخوي، بذل الجهود، وإجراء محاولة ثانية لتشكيل حكومة نظامية قوية. ووافق راخوي على قبول المرسوم الملكي، لكنّه أوضح أنّ إمكانية تعثّر تشكيل حكومة ائتلافية ما تزال قائمة، إذا رفضت الأحزاب المعارضة تقديم الدعم في أثناء التصويت على منح الثقة في البرلمان الإسباني، وإصرارها على الإبقاء على مواقفها من دون تقديم أيّة تنازلات عملية.
ترك الزعيم اليميني راخوي الأبواب مشرعة أمام الزعيم اليساري، بدرو سانشيز، للتوصّل إلى اتفاق بشأن تشكيل الحكومة، موضّحًا أهمية ذلك على الصعيدين، الوطني والدولي، لكن اللقاء لم يثمر عن أيّ نتائج إيجابية، لتبقى الفرصة متاحةً لعقد انتخابات برلمانية ثالثة، حسب صحيفة الباييس، الأمر الذي بات يقلق الاتحاد الأوروبي، باعتبار إسبانيا القوّة الاقتصادية الرابعة بعد قرار خروج بريطانيا من إطار المنظومة الأوروبية، وليس من المقبول الإبقاء على الفراغ الحكومي الرسمي في هذا البلد.
قبل عقد اللقاء المشترك مع الزعيم اليميني، صرّح سانشيز أنّ الحزب الاشتراكي هو البديل عن الحزب الشعبي. لذا، لن يشارك في تشكيل حكومة ائتلاف عريضة، ولن تشارك الكتلة اليسارية
تحديات اقتصادية
التحديات الاقتصادية باقية أمام أيّة حكومة مقبلة، ويصعب التغلّب على العجز المالي وتراجع النمو الاقتصادي، من دون اتخاذ إجراءاتٍ عاجلة، مثل شدّ الأحزمة وإصلاح ميزان الصرف في القطاع العام، ودعم الاستثمارات الأجنبية والحدّ من البطالة، وهذا يصبّ في صالح الأحزاب اليمينية الداعمة هذه التوجّهات، من دون الخضوع لمطالب الأحزاب الأخرى، لتخفيف حدّة القيود الاقتصادية. تشير البيانات إلى ارتفاع معدّل العجز المالي في الموازنة العامة إلى قرابة 5% من قيمة الدخل القومي، في وقت يسمح فيه الاتحاد الأوروبي بنسبة لا تزيد على 3% فقط لكامل دول المنظومة، تحت طائلة المسؤولية، وإمكانية فرض عقوبات إدارية مختلفة. عدا عن ضرورة تحسين العلاقات مع الحكومات الإقليمية المختلفة، بشأن جدولة توزيع الدخل فيما بينها، والأسباب الاقتصادية تحديدًا هي التي دفعت تجاه انفصال مقاطعة كتالونيا عن إسبانيا، وعلى الحكومة المقبلة التعامل مع كل هذه التحديات في ظلّ انعدام بدائل واقعية، تسمح بانتهاج سياسةٍ يساريةٍ متسامحةٍ نسبيًا بالشأن الاقتصادي.
على أيّة حال، يبقى شأن تصدّر الحزبين الرئيسيين قائمة نتائج الانتخابات ضمانةً لاستقرار
تراجعت المفوضية الأوروبية عن نياتها بشأن فرض غرامات قاسية ضدّ إسبانيا والبرتغال، بسبب ارتفاع معدّل العجز المالي لديهما، وأخذت بروكسل تبحث عن آليات أخرى لمواجهة مظاهر تراجع نمو الاقتصاد الأوروبي، الأمر الذي بات في منتهى الأهمية، إثر القرار البريطاني. ويُذكر أنّ المفوضية لم تصدر، حتى اللحظة، أيّة عقوباتٍ تجاه الدول التي تعاني من تضخّم وعجز مالي يفوق الحدّ الأعلى المعلن، وكان من المتوقع أن تبلغ قيمة العقوبات 0.2% من قيمة الدخل القومي لكلّ من البلدين، ومنعهما من الحصول على مساعدات الصناديق الأوروبية، اعتباراً من العام المقبل 2017. لكن، في ظلّ الظروف الراهنة تراجع الاتحاد الأوروبي عن آليات العقوبات المالية المباشرة حلّاً رادعاً.
تراجع مكانة حزب الانفصاليين
كان من المتوقع فوز حزب بوديموس بالمرتبة الثانية، بعد الحزب الشعبي في الانتخابات البرلمانية أخيراً، لكنّه فاز بالمرتبة الثالثة بعد الحزب الاشتراكي، وقد حاول كسب ثقة الشعب تقديم وعود بالتخلي عن سياسة شدّ الأحزمة، لتخطّي العجز المالي، ودعا كذلك إلى عقد استفتاء شعبي لاستقلال كاتالونيا عن إسبانيا كما بريطانيا، لكنّ هذه الوعود الشعبوية لعبت دورًا سلبيًا، خصوصاً بعد نجاح الاستفتاء البريطاني، ما يعني كذلك عدم رغبة الشعب الإسباني خوض تجارب انفصالية جديدة، وعدم قناعته بجدوى الوعود بمستقبل مشرقٍ، من دون اتخاذ تدابير وحزم اقتصادية، قادرة على الحدّ من تراجع النمو الاقتصادي في إحدى الدول المهمة في المنظومة الأوروبية ونادي اليورو.
الخيارات التي يملكها رئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال محدودة. يمكنه، بالطبع، تشكيل حكومة تحالف عريضة للحصول على ما يزيد على نصف عدد أصوات نواب البرلمان، لكن هذا يعني كذلك التعرّض لمشاريع متتالية لحجب الثقة في كلّ مناسبة ممكنة، كما هو الحال في دول أوروبية أخرى، أو المضيّ في تنظيم انتخابات برلمانية جديدة، في ظلّ رفض المعارضة التعاون مع اليمين الإسباني.
فاز الحزب الشعبي بنسبة 33%، ما يعادل 137 نائبًا في الانتخابات التي شارك فيها نحو 24 مليون مواطن إسباني، وتدل هذه النتيجة، على الرغم من عجزها عن تمكين الحزب من تشكيل حكومة أقلية، تدلّ على أنّ الناخبين غير راغبين بقبول مغامراتٍ يساريةٍ جديدة، ويفضّلون التعامل مع الواقع بموضوعية. وتشير النتائج كذلك إلى تراجع الثقة بحزب بوديموس الذي خاض مظاهرات كبيرة ضدّ البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية، من دون أن يقدّم حلولا عملية لحلّ هذه المشكلات الأصولية. وقد فاز تحالف حزب بوديموس واليسار الموحّد بنسبة 13.05% ما يعادل 71 نائبًا فقط والترتيب الثالث بين الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، بعد الحزب الاشتراكي الذي فاز بنسبة 22.66% بواقع 85 نائبًا. وحصدت الأحزاب الكبرى حصّة الأسد من أصوات الناخبين، وأبقت على عدد قليل من المقاعد البرلمانية للأحزاب الصغيرة، إلا أنّ الأخيرة قادرة على ترجيح كفّة أي تحالف سياسي مقبل، يسعى إلى تشكيل الحكومة التي يرغب بها الملك، حسب البروتوكول والدستور الإسباني.
ضرورة تسريع تشكيل حكومة مستقرة
ترى أوساط سياسية أوروبية عديدة أنّ هناك ضرورة لتسريع تشكيل حكومة ائتلاف بصورة
يتمثل الهدف من الانتخابات في أيّة دولة برلمانية بتشكيل حكومة مستقرة، ولا بدائل أمام القادة الإسبان سوى الجلوس إلى طاولة المحادثات، للتوصّل إلى صيغة تفاهم لتشكيل حكومةٍ قادرةٍ على اتخاذ القرارات المهمة، الأمر الذي يتعذّر على حكومة تسيير الأعمال، برئاسة ماريانو راخوي، وليس متوقعاً تحوّل الاستقطاب الراهن والنظام السياسي الثنائي ما بين اليمين واليسار، لكن الإبقاء على حالة المواجهة السياسية الدائمة، من دون الخضوع لرغبة الشعب ووضع إطار لاتفاقية تفاهم تضمن الحدّ الأدنى من الأهداف الوطنية، للخروج من حالة الفراغ، البرلماني والحكومي، التي استمرّت أشهرا عديدة، بات مرفوضًا. يبدو أنّ راخوي والزعيم الليبرالي، رئيس حزب ثودادانوس، ألبرت ريبيرا، قد أدركا هذه الحقيقة، وهناك إمكانية لتشكيل حكومة ائتلافية واجتذاب الأحزاب الصغيرة التي فازت ببعض المقاعد البرلمانية، لترجيح الكفة والحصول على ثقة البرلمان المرتجاة منذ بداية العام الحالي 2016، وإسبانيا، كما هو معروف، قدّمت أمثلة عديدة على السلبية واللامبالاة السياسية في القارة الأوروبية، وكل الحلول متوقّعة وممكنة في هذه الدولة العريقة.
الاتحاد الأوروبي والأزمة الإسبانية
يرى الاتحاد الأوروبي أنّ تنامي الشعبوية السياسية وتقديم الوعود السخية لا يبشّران بخير، بعد أن رفضت إسبانيا قبول التوصيات المالية والسياسية الأوروبية وتنفيذها، الأمر الذي قد يتسبب بفقدان القدرة على التحكّم بمنظومة نادي اليورو. وقد صرح زعيم حزب بوديموس، بابلو إغليسياس، مراتٍ، أنّ إسبانيا تعاني من التسلّط الاقتصادي البشع للاتحاد الأوروبي، لكن الوقائع تشير إلى غير ذلك، فإسبانيا لم تخضع، كما اليونان والبرتغال، إلى حقن مالية عملاقة مباشرة لإنقاذها من الإفلاس، بل حصلت على قروضٍ ميسّرة، لإنقاذ نظامها البنكي المتعثر، ولم يحضر مندوبون عن الثلاثية (صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية) لممارسة أيّة ضغوط على الحكومة الإسبانية.
ويدرك الاتحاد الأوروبي جيّدًا أنّ الحزب الشعبي اليميني وحده هو الذي اتخذ آلياتٍ عمليةً لرقابة ميزان الصرف، ودعا إلى وقف هدر أموال الدولة، وتسريع العمليات الإصلاحية، في وقتٍ حوّل فيه "بوديموس" الاتحاد الأوروبي إلى عدو محتمل لإسبانيا.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ارتفع نفوذ الدول الراغبة برفع مديونيتها الخارجية بالحصول على مزيد من القروض المالية، وسيصبح من الصعب على ألمانيا وهولندا وفنلندا وأيرلندا بصفتها دولاً متطورة اقتصاديا، المحافظة على الاستقرار السياسي والمالي ما بين الدول الأعضاء الغارقة بالديون الخارجية، وغير القادرة على الحدّ من العجز المالي المستمر في موازناتها السنوية.