لكن إسرائيل ابتعدت هذه المرة، وإعلامها، عن كل ما يمكن أن يبدو تدخلاً في الانتخابات الفرنسية الرئاسية، ولم تجاهر لا حكومتها ولا إعلامها بدعم أو تعويل على مرشح دون غيره من بين المرشحين الـ11 الذين خاضوا المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية، أول من أمس الأحد. اختبأت إسرائيل وإعلامها وراء ستار إبراز المنافسة الشديدة بين من "تكرههم" إسرائيل علنا، وهما مرشحا اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون، ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، لتعرض على مدار الأسبوع الماضي ولغاية أمس، صورة لانتخابات فرنسا وكأنها تدور أساساً بين الجبهة الوطنية بقيادة لوبان وميلانشون، ووصم الأخير بأنه "بيرني ساندرز الفرنسي" (المرشح اليساري الأميركي)، وصولاً إلى الترويج لمقولة أن مصير الاتحاد الأوروبي كله معلق بأقل من 1 في المائة من الأصوات. ابتعد الإعلام الإسرائيلي، حتى أمس الأول، عن الخوض في مَن مِن المرشحين موالٍ لإسرائيل، وبدا للقارئ والمتابع للصحف الإسرائيلية وكأن تل أبيب لا تملك هذه المرة، رغم قوة اللوبي اليهودي في فرنسا، وعلاقاتها المتينة مع اليمين الفرنسي التقليدي ممثلاً بنيكولا ساركوزي، مرشحاً مناصراً لها. مع ذلك، أظهرت نتائج الدورة الأولى أن غالبية الفرنسيين الذين يعيشون في إسرائيل ويملكون جنسية مزدوجة، لديهم ميل واضح لمرشح اليمين التقليدي، فرانسوا فيون، الذي وصل وفق النتائج، للمرتبة الثالثة. هكذا، صوّت في نتاينا وفي تل أبيب، نحو 25 ألف إسرائيلي يحملون الجنسية الفرنسية لفرانسوا فيون من أصل 30 ألف شخص إسرائيلي يملكون الجنسية الفرنسية، مع الإشارة بوضوح إلى أنه المفضل لليهود في فرنسا ولدولة إسرائيل.
في المقابل، اعتبرت الصحف الإسرائيلية أن إيمانويل ماكرون، هو "الأقل سوءاً" بالنسبة للدولة العبرية في هذه الانتخابات، وهو ما دفع بالنائب الفرنسي مئير حبيب، اليهودي الذي يعيش في إسرائيل، إلى الحديث صراحة مع موقع معاريف عن خيبة "معسكرنا" من النتائج، ولكن في الوقت نفسه دعا اليهود الفرنسيين والإسرائيليين إلى المشاركة في الجولة المقبلة والتصويت لإيمانويل ماكرون. هكذا، ظهر ماكرون برأي الصحافة الإسرائيلية، كالأقل سوءاً بين باقي المرشحين، وبالتأكيد مقارنة بمارين لوبان، التي أعرب إسرائيليون فرنسيون صراحة أنهم لم يصوتوا لها لأنها تهدد بالأساس بحرمانهم من الجنسية الفرنسية. كما خصصت صحيفة "هآرتس" مثلاً أربعة مقالات لنتائج الانتخابات، تراوحت كلها بين الدعوة للتصويت لماكرون، باعتباره "المخلص الآني" والمنقذ من خطر الجبهة الوطنية وما قد يجره فوز لوبان من استفحال لمعاداة السامية، وإن كانت سمومها تستهدف في المقام الأول المسلمين والمهاجرين (بحسب دوف ألفين)، وبين كون النتائج توفر بصيص أمل يمثله انتقال ماكرون للجولة الثانية، وأن انتخابه هو رسالة فرنسية لأوروبا مفادها أن التطرف ليس قدراً حتمياً، وأنه يمكن وقفه وصده لو بالأسنان، وفق ما ذهب إليه سيفي هندر.
في المقابل، اعتبر النائب اليساري السابق، نيتسان هوروفيتس، أن النتائج الفرنسية تؤكد انتصار كره الفرنسيين لفساد السياسة الحزبية والمؤسساتية، وأن الرئيس(ة) الجديد(ة)، سيكون من خارج المؤسسة السياسية والحزبية التقليدية في فرنسا. واتفقت "يديعوت أحرونوت" مع مقولة هوروفيتس عندما اعتبرت نتائج الجولة الأولى في الانتخابات الفرنسية بأنها "ثورة فرنسية لوصول مرشحين من خارج المؤسسة". وكانت "يديعوت" قد نشرت يوم الأحد مقالة للكاتب الفرنسي اليهودي برنار هنري ليفي حذّر فيها من الأخطر على فرنسا واليهود، وكان هؤلاء طبعا هما مارين لوبان وجان لوك ميلانشون، عندما وضعهما في سلة واحدة. ويمكن القول إن موقف هنري ــ ليفي هذا يعكس الموقف الإسرائيلي غير المصرح به وغير المعلن، مقابل الابتعاد عن الترويج أو التأييد المعلن لفرنسوا فيون، لأسباب تتعلق بضعف فرصه أولاً، وتفادي نتائج غير حميدة أو ترسبات قد تضر بعلاقة تل أبيب بالرئيس الفائز، ربما كعبرة مما حدث مع بنيامين نتنياهو عندما أيد علناً ميت رومني، لكن باراك أوباما كان هو من فاز في ولاية ثانية في حينها.
ويتفق الصحافي اليميني، المقرب على نحو خاص من نتنياهو، بوعز بيسموط، الذي يكتب في صحيفة "يسرائيل هيوم"، أن نتائج الجولة الأولى تشكل ثورة حقيقية في السياسة الفرنسية، باستبعادها مرشحي الأحزاب الفرنسية التقليدية من المنافسة، لكنه مع ذلك، فضّل رؤية نصف الكأس الفارغة، كما يقولون، من خلال تركيزه على أن فوز مارين لوبان بمليون صوت إضافية مقارنة مع الانتخابات الماضية، يدل على أن اليمين المتطرف في فرنسا بات شرعياً وجزءاً من المشهد السياسي "الشرعي" في فرنسا، وأن فرنسا لم تعد تخجل باليمين المتطرف، وأنه في ظل ذلك، فإن الرسالة التي يجب توجيهها للفرنسيين اليوم هي "كلنا مع ماكرون".
وقد تكون هذه إشارة من إسرائيل لماكرون ترجو قطف ثمارها لاحقاً، لا سيما مع وجود إشارات لتحرك إسرائيلي رسمي، أو اللوبي اليهودي في فرنسا في الانتخابات البرلمانية الفرنسية (يونيو/ حزيران المقبل)، سعيا لإعادة رئيس الحكومة الفرنسي السابق، المناصر لإسرائيل، أي مانويل فالس، إلى كرسي رئاسة الحكومة الفرنسية بتنسيق مع ماكرون في قصر الإليزيه.
أخيراً، تبقى ضرورة الإشارة إلى مقالة نشرتها "هآرتس"، سعى كاتبها، عيدو دامبي، إلى محاولة رسم بورتريه لإيمانويل ماكرون، ومقاربته بمن اعتبره شبيهه الإسرائيلي، ليجد أوجه شبه بين ماكرون ويئير لبيد، لجهة براعة الاثنين في تسويق نفسيهما برسائل ملائمة لمختلف الأوساط، مع إبراز عنصر التموضع في "الوسط ويمين الوسط"، والسعي لكسر تقاليد السياسة والإتيان بسياسة حزبية جديدة. ويرى دامبي أن القاسم المشترك بين الرجلين، أي يئير لبيد وإيمانويل ماكرون، هو كونهما يمثلان "حزب الموضة"، كل في حلبته السياسية وفي بلده. حزبان يسعى كل منهما لاستقطاب مؤيدين من يمين الحلبة السياسية ويسارها، مع سعي لطرح بديل وسطي يقوم على فاقدي الانتماء أو البيت السياسي والخائبين من مرشحهم المفضل (في السياق الإسرائيلي محاولة لبيد الاعتماد على مصوتي العمل الخائبين من هرتسوغ سعياً لتغيير نتنياهو)، فيما بحث ماكرون عن أنصار اليسار الخائبة آمالهم من فرص أحزابهم ويبحثون عن حصان يمكنه أن يكسب المباراة ويصد اليمين المتطرف.