في غضون ذلك، تبدو الصورة في إسرائيل شبه واضحة المعالم، ولكن ليس بالشكل النهائي، إذ تبدو الحسابات الأمنية والعسكرية للجيش، بعدم الاتجاه نحو تصعيد عسكري شامل حالياً، متفقة مع الحسابات الائتلافية والسياسية، بما فيها الدولية، للمستوى السياسي في إسرائيل، لجهة عدم التصعيد حالياً، والاتجاه نحو توافق معيّن ولو معلن، مع مقترحات الوسيط الدولي نيكولاي ملادينوف، ومع الجهود المصرية المتواصلة في هذا السياق منذ أشهر عديدة. وتنطلق هذه الحسابات من الاعتقاد بأنّ الوضع الدولي الراهن لا يمنح دولة الاحتلال "شرعيةً" أو سنداً قانونياً يمكّنها من شنّ حرب واسعة النطاق على قطاع غزة، خصوصاً بعد الانتقادات التي واجهتها دولة الاحتلال منذ اندلاع المواجهات على الحدود مع القطاع منذ إطلاق مسيرات العودة في الثلاثين من مارس/ آذار الماضي، وما تبعها من استهداف للمدنيين من قبل الاحتلال، كان قد بلغ ذروته في مجزرة الرابع عشر من مايو/ أيار الماضي مع سقوط أكثر من 60 شهيداً.
ويمكن الاستدلال من عقد دولة الاحتلال للمجلس الوزاري المصغّر للشؤون الأمنية والسياسية، خمس مرات على الأقل في أقل من أسبوعين، على حالة التخبّط في صفوف القيادة السياسية، وأيضاً على صعيد المستوى العسكري، بشكل لا يتيح له الحسم لجهة رفض مطلق لمساعي ومقترحات التهدئة مع غزة، مع ما يترتب على ذلك من ترجيح الخيار العسكري، الذي يكرر الجيش الإسرائيلي رفضه له قبل إنجاز الجدار الفاصل مع القطاع، ومن إدانة دولية للاحتلال في ظلّ تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، خصوصاً أنّ الرسائل الآتية من "حماس" لا تحمل ردوداً سلبيةً وتشنّجاً في الموقف لجهة التوصّل إلى تهدئة ولو قصيرة الأمد.
هذا الوضع دفع مثلاً بالمحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرنوت"، أليكس فيشمان، إلى وصف تحرّكات الحكومة الإسرائيلية، في ظلّ غياب استراتيجية واضحة تجاه الملف الفلسطيني عموماً، وقطاع غزة خصوصاً، بأنه فنّ "شراء الوقت". ويبدو التعبير، وكنا قد أشرنا إليه في "العربي الجديد" نهاية الأسبوع الماضي، أدقّ ما يمكن وصف الموقف الإسرائيلي به، خصوصاً في ظلّ بدء المجلس المركزي لمنظمة التحرير، أمس، أعماله، مع استباق السلطة الفلسطينية لأي تهدئة بالحديث عن رفضها لإقامة ميناء بحري في قبرص، فيما أعلن مصدر رفيع المستوى من "حماس" في تصريحات صحافية، أنّ الحركة "لم تتلق بعد رداً إسرائيلياً إيجابياً على مسألة الميناء".
وقد بات واضحاً أمام الطرف الإسرائيلي أنّ زعيم حركة "حماس"، يحيى السنوار، لن يتجه بأي حال إلى أي صفقة بشأن تبادل للأسرى قبل تحرير أسرى صفقة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم في يونيو/ حزيران من العام 2014.
وفي هذا السياق، نقلت القناة الإسرائيلية الأولى والقناة العاشرة، عن مصدر إسرائيلي رفيع المستوى قوله بعد انتهاء جلسة "الكابينت"، أمس، إنه "لن تكون هناك تسوية حقيقية مع حركة حماس، بدون إعادة جثامين أبنائنا وإعادة مواطنينا المحتجزين وضمان الهدوء لفترة طويلة"، مضيفاً "لقد تمّ تحقيق الهدوء الحالي بفضل التفاهمات التي دفعت بها كل من مصر والأمم المتحدة. وعلى ضوء ذلك أعيد فتح معبر كرم أبو سالم، وتوسيع مجال الصيد".
لكنّ أكثر من معلّق إسرائيلي، وخبير في مجال الأمن، بينهم رام بن براك، نائب رئيس الموساد سابقاً، والجنرال احتياط يعقوف عامي درور، رئيس مجلس الأمن القومي السابق، لفتوا إلى أنّ موضوع الأسرى وجثتي الجنديين الإسرائيليين لدى "حماس"، هدار غولدين وشاؤول أورون، لا يمكن ربطه حالياً بجهود التسوية التي يبدو أنها تتجه، وفي ظلّ الوضع الفلسطيني الداخلي أيضاً، إلى محاولات للتوصّل لتهدئة قصيرة الأمد، وليس تهدئة واسعة النطاق تشمل رفع الحصار عن قطاع غزة كلياً.
وبالعودة إلى محلل الشؤون العسكرية فيشمان، فقد أشار في معرض استعراضه لما يدور في صفوف الحكومة الإسرائيلية وفي عقل رئيسها، بنيامين نتنياهو، إلى أنّ الأخير لا يريد في المرحلة الحالية على الأقل، وهو يدرس احتمالات تبكير موعد الانتخابات، التورّط في حرب شاملة مع قطاع غزة، بل هو بحاجة إلى نوع من الهدوء خلال المعركة الانتخابية، في حال حسم قراره باتجاه تبكير موعد الانتخابات، بما يتيح له إدارة معركة انتخابية من دون حرج في مسألة تأمين حياة سكّان المستوطنات الجنوبية المحاذية لقطاع غزة.
وتؤشّر وتيرة عقد المجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسية والأمنية من دون الخروج بقرارات حاسمة ومعلنة، إلى أنّ احتمالات أو فرص التوصّل إلى تسوية شاملة في القطاع عبر اتفاق جديد لم تعد خياراً واقعياً لدى حسابات الحكومة الإسرائيلية، لا سيما في ظلّ ما يجري على الساحة الداخلية الفلسطينية، بين رام الله وغزة والقاهرة أيضاً. ويشكّل هذا الوضع، بحسب فيشمان، دليلاً على عودة حكومة الاحتلال إلى سياساتها التقليدية بكسب الوقت، ريثما تتحسّن الظروف الميدانية أو الدولية، بحيث يتم حالياً وقف الهجمات والغارات الإسرائيلية مقابل وقف إطلاق النار من غزة، وفي المقابل تحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع. وسيساعد هذا الأمر في إظهار إسرائيل عالمياً على أنّها مستعدّة لتقديم تنازلات ووقف إطلاق النار. وبالتالي، فإنّه في حال عادت "حماس"، يوم الجمعة أو بعد أسبوع وربما شهر، إلى إطلاق البالونات الحارقة أو خرق حالة الهدوء، ستكون لدى إسرائيل "شرعية دولية لضرب حماس وبقوة". ويشكل هذا التصور الإسرائيلي لوجود شرعية دولية، ركيزة أساسية في صنع القرار لجهة حرب جديدة ضد غزة.
إلى ذلك، يلفت فيشمان إلى ما سبق أن أشار إليه المحلل العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، من أنّ حكومة الاحتلال تتجنّب سياسياً التوصّل إلى اتفاق مع "حماس"، بسبب دلالات ذلك لجهة منح الحركة اعترافاً بها وبسلطتها، خصوصاً في ظلّ ما ردده عدد من وزراء حكومة الاحتلال والخبراء العسكريين من أنّ أحد أسباب عدم الاتجاه نحو خيار تقويض سلطة "حماس"، هو غياب بديل يمكن له أن يحكم قطاع غزة. وهو ما فسّر أيضاً مساعي نتنياهو، الأحد، للتلويح بخيار العودة لسياسة الاغتيالات والتصفيات الجسدية لقادة "حماس"، في محاولة من الاحتلال لزيادة الضغوط على الحركة، لتقديم تنازلات في شروط التهدئة.
في ظلّ هذه المعطيات، يبدو واضحاً أنّ حكومة الاحتلال ستواصل المماطلة في مسألة التوصّل رسمياً إلى اتفاق للتهدئة مع قطاع غزة، ما لم تتضّح أيضاً شروط ومواقف السلطة الفلسطينية في رام الله، والدول التي يمكن لها أن تتعهّد بتمويل عمليات إعادة الإعمار في القطاع، وكذلك ما لم تصل لمعادلة يمكن تسويقها أمام الرأي العام الإسرائيلي بشأن جثتي الجنديين الإسرائيليين، هدار غولدين وشاؤول أورون، اللذين ترفض "حماس" أي ربط لإبرام صفقة تبادل بشأنهما وبشأن مواطنين إسرائيليين محتجزين لديها، بمساعي التهدئة.