تعيش إسرائيل حالة غريبة من الهوس المستمر بالاستطلاعات المختلفة للرأي حول قوة الأحزاب الإسرائيليّة وفرص زعمائها في الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها في السابع عشر من شهر مارس/آذار المقبل.
ومع أن كافة المراقبين يجمعون على أنّه لا يزال من المبكر التكهّن بنتائج الانتخابات التمهيديّة أولاً في الليكود، في حال قرر وزير الداخلية السابق، جدعون ساعر، منافسة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على زعامة الليكود مثلاً، أو رسم الصورة النهائية للتحالفات الحزبيّة والقوائم المشتركة، لكنّه من الواضح أن هناك نوعاً من التراجع في مكانة نتنياهو، سواء على رأس الليكود، أم على مستوى فرصه في حال ظلّ رئيساً لليكود، في تشكيل الحكومة المقبلة.
وفي هذا السياق، يفيد استطلاع نشرته القناة الثانية بنقطة تحوّل، وإن كان لا يزال مبكراً الجزم بأنّها ستكون حاسمة في تغيير مجرى الانتخابات والسياسة الإسرائيلية. ولا ينبع ذلك من كون الاستطلاع المذكور، أعطى حزب الليكود برئاسة نتنياهو 20 مقعداً، مقابل حصول القائمة التحالفيّة بين حزب العمل بقيادة إسحق هرتسوغ وحزب "هتنوعاه" بقيادة الوزيرة المقالة تسيبي ليفني على 22 مقعداً، وإنما من إشارته للمرة الأولى إلى تقدّم زعيم العمل وارتفاع نسبة الذين يعتبرونه مناسباً لرئاسة الحكومة إلى خانة 22 في المائة مقابل 23 في المائة لنتنياهو، بعد أن كان الأخير يتقدّم عليه بأكثر من 10 في المائة وفق الاستطلاعات السابقة.
ومع أنّ الإعلام الاسرائيلي يعتبر هذا الأمر مؤشراً على استمرار تراجع قوّة نتنياهو، بوصفه الأنسب لرئاسة الحكومة الإسرائيليّة، كما بينته استطلاعات سابقة، لكنّ الإعلام لم يشر إلى حقيقة أنّ مسألة التحالف المستقبلي بين هرتسوغ وليفني، لا تزال موضع خلاف شديد داخل العمل. وليس واضحا بعد ما إذا كان هرتسوغ قادراً في نهاية المطاف على تخصيص وضمان أربعة مقاعد على لائحة مرشحي الحزب لمن ستحضرهم ليفني معها إلى القائمة المشتركة.
ويمكن القول إلى حد ما، إنّ الهوس بالاستطلاعات، التي تعزز تراجع قدرات نتنياهو وفرصه في الانتخابات، يعكس تمنيات الإعلام الإسرائيلي وكثير من المحللين، بأن يروا نتنياهو يبتعد عن المشهد السياسي، خصوصاً أنّ بعض الإعلاميين والمحللين في إسرائيل، من المحسوبين على اليسار، يروّجون أكثر مما يبدو حقيقياً، لاحتمال إقدام ساعر على منافسة نتنياهو، مع أن الأخير أعلن أنه لن يخالف تقاليد الليكود بعدم الإطاحة برئيس حكومة ليكودي.
مع ذلك، لا يمكن للمتابع للشأن الإسرائيلي، أن ينكر وجود تيار إعلامي وحزبي يتمنى ابتعاد نتنياهو عن المشهد الإسرائيلي، وهو التيّار ذاته، الذي يدفع صحيفة "يديعوت أحرونوت"، على سبيل المثال، إلى أن تنشر بشكل شبه يومي مقالات تدعو الإسرائيليين، وتحديدا أنصار الوسط واليسار والعلمانيين، إلى التخلي عن لامبالاتهم تجاه المشاركة في الانتخابات. وتدعو مقالات مختلفة في صحف إسرائيلية عدّة إلى ضرورة أن يمارس الإسرائيليون حقّهم في التصويت "لإنقاذ الديمقراطيّة الإسرائيليّة".
في المقابل، تبدي أحزاب اليسار (إن جاز إطلاق ذلك على حزب العمل) والوسط (وفق تصنيف ليفني ولبيد لحزبيهما)، تفاؤلاً كبيراً لناحية تمكّنها من بناء كتلة وسطيّة يساريّة، تجرف وراءها الناخب الإسرائيلي للتخلّص من نتنياهو تحت شعار "إلا نتنياهو"، مع اعترافها باستعدادها للتعاون والائتلاف مع ألدّ خصوم هذا التيار، أي حزب "إسرائيل بيتينا" بقيادة وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، أو حتى تجديد الحلف مع الحريديم (في حال وافقت) لتغيير الحكم في إسرائيل.
وعلى الرغم من محاولات إظهار نتائج الاستطلاعات المتكررة على أنّها طرح لامتحان الثقة بنتنياهو واليمين، لكنّ الواقع الإسرائيلي المركب يعكس بشكل واضح وجلي مسألة عدم الاستقرار الانتخابي والثبات عند مجمل الإسرائيليين في أنماط تصويتهم في العقدين الأخيرين على الأقل. فعدم الثبات والذهاب إلى التصويت لأحزاب هويات ضيقة، وإن كانت في اليمين، بدلاً من التصويت للأحزاب الكبيرة التقليديّة، هو ما قاد إلى ظهور الأحزاب متوسطة الحجم، مثل حزب لبيد (19 مقعداً) وحزب نفتالي بنيت (12 مقعداً). وأدى هذا النمط من التصويت إلى ذوبان الأحزاب الكبيرة وفقدان قوّتها التاريخيّة والتقليديّة، ما يدفع رؤساء الأحزاب الذين يُكلّفون بتشكيل الحكومة إلى الاعتماد على أحزاب متوسطة الحجم، كتلك التي شكلت حكومة نتنياهو الأخيرة.
وبعد أن كان حزبا الليكود والعمل يرفضان ويسعيان، من خلال حكومتي الوحدة الوطنية في الثمانينيات، إلى الهروب من ابتزاز الأحزاب الصغيرة (كانت حينها أحزاب الحريديم والمتدينيين الصهيونيين "المفدال" التي أصبحت اليوم "البيت اليهودي")، وجد الحزبان أنهما باتا رهائن لنزوات قادة وزعماء أحزاب متوسطة الحجم، بدءاً من حزب "شينوي" بقيادة تومي لبيد الأب، خلال حكومتي أرييل شارون وإيهود أولمرت، وانتهاء بخضوع نتنياهو لابتزاز متواصل من حزب لبيد الابن وحزب ليبرمان، وحتى حزب البيت اليهودي بقيادة بينيت.
والأكيد اليوم أن كثرة استطلاعات الرأي تثير البلبلة لدى الناخب الإسرائيلي، في المرحلة الحالية، أكثر مما تدله على اتجاه الريح في المعركة الحالية.