يلمّ بنا الشتاتُ ويوزّعنا في كل اتجاه، فنتساءلُ عن الأصدقاء، أين هم الآن؟ ونتساءل عن الأساتذة، في أي مقهى يجلسون؟ ونتساءل عن رفيقات الدراسة، في أي عاصمة تتردّد خطواتهن؟
وشيئاً فشيئاً، تتراجع الصورُ وأنصافُ الصور حين يفاجئني فنانٌ تشكيلي بحضوره، عابراً إليّ مع لوحات لا تنسى؛ ريفيون وريفيات من عراق الأمس يتوزّعون على قماش اللوحات مثل أشباح هائمة، أزقة تعلوها شرفات مغلقة بنوافذ خشبية، مقاهٍ.. كأن تلك النهارات ما زالت قائمة هناك، وكذلك الغروب والأمسيات.
كان أستاذي خلال دراستي الجامعية، يشرف على أعمالنا في مرسم الكلية، أنا وأربعة من الزملاء وزميلة. اخترنا أن نواصل هوايتنا في الرسم والتصوير، وينضم إلينا أحد أساتذة الكلية، ونحظى بعدد من الزوار بين يوم وآخر. متوحّدين، نصغي في تلك الظهيرات إلى وقع الأقدام العابرة، ونحاول اكتشاف من يكون صاحبها أو صاحبتها.
ذاك هو الفنان إسماعيل الشيخلي المولود في بغداد بعيدة في عام 1924، والمتوفى فيها في عام 2002. أحد رواد الفن التشكيلي العراقي، خريج مدرسة "البوزار" الفرنسية، وأحد مؤسسي حركة الرواد في الخمسينيات إلى جوار فائق حسن وجواد سليم وبقية المؤسسين، وصاحب أكثر من أربعة آلاف لوحة كان نصيبي منها لوحة تصورني جانبياً التقطتها ريشته، وحملتها معي بعد أن غادرت بغداد، وأودعتها في بيت العائلة قبل أن أواصل الرحيل.
وحين عدتُ ذات يوم، فوجئت بصورتي الشخصية تلك وقد تحوّلت إلى جانب من جوانب قفص خشبي صنعه أخي الصغير ليحتضن صغار حمائم حديثة الولادة.
حين عرفته كان أستاذاً في معهد الفنون الجميلة، ثم في الأكاديمية التي تحول إليها المعهد؛ يقف معنا جنباً إلى جنب في مرسم الكلية المتواضع والمتوحد وراء لوحته. أحياناً يتأمل بعض الخطاطات التي وضعتها على الورق تمهيداً لتحويلها إلى لوحات زيتية ملونة، ويفاجئني أنه حوّل خطاطة منها إلى لوحة من دون أن ينطق بكلمة واحدة. كان كثير الصمت، ولا أذكر أنه تحدث عن باريس إلا عرضاً، ربما لأنها ضاعت في ضباب أيامه الماضية.
ذات يوم اقتربَ مني، وأشار إلى الظلال في لوحتي: "يبدو أنك رسمتَ لوحتكَ في أوقاتٍ مختلفة!"، وانتبهتُ إلى أنني بالفعل كنتُ أتبع تحوّلات الضوء من وقت إلى آخر؛ لم أكن أستقر، بينما كان هو أستاذ الاستقرار في الفن والحياة السياسية؛ لم يكن يرفض سوى الظلم كما قال ذات يوم وهو يصغي إلى نقاش سياسي حاد.
وذات يوم أصابنا بالدهشة، نحن الأربعة، حين اقترح ببساطة: "لماذا لا تلتحقون بالأكاديمية؟ أنتم ترسمون أفضل من الطلاب عندنا!". كان هذا في تلك الأيام التي تسارع فيها كل شيء.
لم نجد وقتاً لنحقق رغبته.. ورغبتنا أيضاً. بعد أيام قليلة، كان هناك انقلابٌ وجنود يحتلون الأكاديمية، ويتمدد أحدهم على الشرفة وبندقيته بين ساقيه!