قناصة ولواءات متقاعدون.. دم ودمار.. القاهرة تحت الاحتلال وسكان البلاد لا يبالون بالموت أو الحياة.. هذا هو مستقبل مصر عام 2025 بعد هزيمة الثورة وموت الأمل كما تصوره رواية "عطارد" للكاتب المصري محمد ربيع.
يرسم محمد ربيع صورة قاتمة جدا للحياة في مصر بعد عشرة أعوام متخذا من شخصية ضابط شرطة يحترف قنص البشر بطلا للرواية، وفي الرواية يبدو أن أغلب هؤلاء البشر سعيد بالموت لا جافل منه، إنهم يهربون من الحياة كمثل هروبهم من الجحيم.
تبدو ثورة يناير خلفية لأحداث الرواية، ويدور جزء من العمل في عام 2011 وسط المظاهرات وأعمال القنص واللجان الشعبية، لكن العمل يحكي بطريقة فانتازية/كابوسية عن هوامش هذا العام أكثر مما يحكي عن أحداثه الكبرى.
فبطل فصول 2011 من الرواية هو رجل معذب بطفلة تفقد أباها خلال الأسبوع الأخير من يناير، لا نعرف إن كان قد استشهد في أحداث الثورة أم لا، لكن هذه الطفلة المسماة "زهرة"، وهي طالبة في مدرسة يعمل فيها البطل "إنسال" مشرفا، أصبحت تحت رعاية البطل دون رغبته.
لاحظ أن اسم البطل هو تحريف لكلمة "إنسان"، ولا نعرف هل قصد المؤلف أن الرجل فقد جزءا من إنسانيته عبر الحياة الرتيبة أو أنه تحول إلى "إنسال" بسبب لا مبالاته بما حوله.
لكن الطفلة تحول "إنسال" تدريجيا إلى إنسان، فيتحرك باحثا عن أبيها في المستشفيات ويمر يوميا على أكثر من مشرحة، ويلتقي أسر الشهداء ويسير في مظاهرة، ويلمح ظل قناص ويشهد ضحاياه يتساقطون أمام عينيه.
لكن "زهرة" لا تفلح في إيقاف الكابوس، فكم الدم والموت الذي تفسح له الرواية صفحات وصفحات، قادر على قتل أي براءة وأمل.
وبدلا من أن تظل الطفلة "معذبة بالأمل" مثل شباب ميادين الثورة، كما تتحدث عنهم إحدى شخصيات الرواية، فإنها تفقد قدرتها على التواصل مع العالم عبر فقدان ملامحها وحواسها، فتفقد أولا فمها ثم أذنيها وأخيرا عينيها، تفقدهم بطريقة كابوسية؛ حيث ينمو جلدها ويغطي فمها ويلتئم ليغلقه تماما ثم تسقط أذناها ويفعل الجلد فعلته مع الفم ثم يكررها مع العينين.
تذبل زهرة تدريجيا كما ذبل الأمل في القلوب ولكنها تذبل بسرعة، وتترك "إنسال" وحيدا بعد أن أجهضت زوجته ثم هجرته.
فرسان مالطا
تسخر الرواية بقسوة من القصص التي يختلقها إعلام الثورة المضادة بشأن أحداث الثورة وترفضها، ففي الرواية احتل جيش "فرسان مالطا" القاهرة والدلتا وسحق الجيش المصري، ولكن لماذا "فرسان مالطا"، هذه هي المفارقة الساخرة.. سخرية سوداء، فقد تردد اسم "فرسان مالطا" أول مرة في صحف حكومية ووسائل إعلام خاصة مؤيدة لحكومات ما بعد 3 يوليو في مصر عندما أدلى قائد الحرس الجمهوري السابق، أيمن فهيم، بشهادته في "قضية القرن"، المعروفة بقضية "قتل المتظاهرين"، وألمح فهيم، في شهادته أمام المحكمة، إلى أن السيارتين الدبلوماسيتين المسروقتين اللتين تم رصدهما تقومان بدهس المتظاهرين في محيط ميدان التحرير، في أحداث "جمعة الغضب"، 28 يناير/كانون الثاني 2011، ربما كانتا بقيادة أعضاء من سفارة "فرسان مالطا".
ولكن "دولة فرسان مالطا" في الحقيقة ليست دولة بالمعنى المفهوم وليس لها شعب، وهي تأسست عام 1050، من قبل بعض التجار الإيطاليين كـ "هيئة خيرية" بالأساس، وكان هدفها الرئيسي وقت التأسيس حماية الحق المسيحي في الحج إلى القدس، ولكنها الآن تركز على المشاريع الخيرية.
ترسم الرواية سيناريو ساخرا قاتما تقوم فيه "دولة فرسان مالطا" بتجميع جيش من المرتزقة، وتقوم بغزو مصر الغارقة في الفشل والفوضى، وتمعن في السخرية بأن تتشكل حركة مقاومة قوامها ضباط شرطة سابقون، لا يبدو ضباط الشرطة/المقاومون "وطنيين" كما اعتدنا في روايات مقاومة الاحتلال، بل هم أقرب لإقطاعيين نزع الغزاة منهم أملاكهم ويحاربون لاستعادتها.
قناصون وقتلة
يقول الروائي "محمد ربيع" صاحب "عطارد" إنه كتب عن شخصية القناص مدفوعا بقناعة داخلية ترفض الرواية المضادة عن أحداث ميدان التحرير؛ تلك التي يروجها قطاع من الإعلام والتي تدعي أن مقاتلين من حماس وغيرهم عبروا أنفاقا على الحدود ووصلوا لميدان التحرير وقتلوا المتظاهرين.
ويرسم ربيع القناص في الرواية آلة قتل بلا توقف.. يقتل تارة لينفذ خطة ما، وتارة لينتقم ممن يعتبرهم مواطنين خاملين وأخرى لينفس عن غضبه.. إنه يقتل ويقتل.. بل إن خطة رؤسائه في "المقاومة" هي فقط المزيد من القتل.
يشرح عميد شرطة سابق انتقل إلى صفوف "المقاومة" خطة "المقاومون" في الرواية لطرد احتلال "فرسان مالطا" بالكلمات التالية: "خلال أيام قليلة سيندلع القتل في الشوارع، ستصبح الجريمة بلا عقوبة، أعداد القتلى ستزيد في كل شارع من شوارع القاهرة، لن يجد الناس مهربا من الرصاص وجماعات البلطجية والسيارات المندفعة تدهس المارة"..
وفي شرح المنطق خلف الخطة يقول ضابط الشرطة السابق "المواطنون سيدركون أننا أوغاد، أننا نقتلهم، لكنهم سيفضلوننا، لا لأننا وطنيون أو من أهل البلد أو لأننا نتكلم اللغة نفسها، بل فقط لأننا سنقتلهم طالما استمر الاحتلال، سيستنتجون تلقائيا أننا سنتركهم أحياء إذا رحل المحتل".
يروي ربيع عبر قناع الفانتازيا السياسية السوداوية حكايات من الثورة، ويغوص في عقول رجال النظام ويكشفهم ويعري منطقهم ويسخر من مؤامراتهم، ويحكي بحزن بالغ قصة ثورة مغدورة.
(مصر)