إطلالة على انتفاضة السكين

28 فبراير 2016
(تصوير: حمدي أبو رحمة)
+ الخط -

نشأت المقاومة الفلسطينية في حيّزِ فرضه الاحتلال، وبالتالي التصقت به كثنائية متضادة شقّها الأول يستوجب حياة الثاني وشكله، وكان لها أن تتبدل وتتغير، وهي تراقب عن كثب تطوّر المشروع الصهيوني الذي وصل اليوم إلى مرحلة يرفض فيها أي طرح من أي طرف، وازداد توحشا أمام الشكل الذي اتخذه الشارع الفلسطيني دون أي تعبئة أو دعاية حزبية وهو السكين، التي خلخلت الأساليب النمطية لأشكال المقاومة وفرضت وجودها كأداة نضالية.

منذ أن خرج المستعمر البريطاني من فلسطين ترك خلفه مشروعا تقوده مجموعات من المليشيات المسلحة، شكّلت في ما بعد نواة للمؤسسة الإسرائيلية السياسية والعسكرية، وقادت عمليات التنكيل بأصحاب الأرض إلى يومنا هذا.

العجيب أن طبيعة هذا المشروع ما زالت موضع غموض مفتعل للمعنيين الأساسيين العرب والفلسطينيين، وهو ما أثر على شكل الصراع وأساليبه مع المحتل. وكان من شأن الفشل في إحباط المشروع الصهيوني، عربيا وفلسطينيا على المستوى الرسمي، أن ينقل زمام المبادرة إلى الشارع الذي ظهر بالانتفاضات المختلفة وصولا إلى انتفاضة السكين، كحدث لا يحتاج إلى تبرير بعيداً عن الخطاب الرسمي واختناقاته.

شهدت العقود الماضية خلافا واختلافا في الرؤى التي تحكم المؤسسة الدينية والسياسية والعسكرية الإسرائيلية نفسها، وإسرائيل تبدلت نفسيا واجتماعيا، مع وجود قواسم مشتركة بين المؤسسات الثلاث هي تضييع الحق الفلسطيني بكل تشعبات هذا الحق.

إسرائيل الآن تحولت إلى كيان مختلف كل الاختلاف عما كانته في العقود الماضية، هي تخاف من حملات المقاطعة ومن ذكر اسمها في المحاكم الدولية، هي مدانة على خجل في قضية الأسرى والإعدامات الميدانية والاستيطان، لأنها تحصل أمام شاشات العالم مع وجود من يراقب ويتحدث ويكتب.

وهذا لا يعني أن الممارسات الإسرائيلية الأخرى أقل شأنا، فتوقيف الفلسطينيين على أي معبر أو حاجز يشكل صورة خالصة واضحة لطبيعة الاحتلال وفعلا يوصِّف حياة الفلسطيني في أرضه.

لكن ما يؤرق فعلا هو التغافل عن استيعاب المشروع الإسرائيلي بكل حيثياته، خاصة أطماعه الاستراتيجية، ما يضع المؤسسة السياسية الفلسطينية بجميع وجوهها، هي والنظام العربي الرسمي، في دائرة التعامل الآني مع الفعل الإسرائيلي، ناهيك عن فخّ التعامل اليومي مع هوامش السياسة الإسرائيلية، التي برزت مع بروز عملية سياسية دولية دُفعت إليها القيادة الفلسطينية ودول عربية.

ليس من قبيل الصدفة إذاً أن يتبنى الشارع الفلسطيني توجها آخر -مهما كان ثمنه فادحاً ومأساوياً- بهدف كسر حالة تبعية فرضها المستعمر القديم وتحكم بها بمصير شعوب عربية، كانت تحتضن أو تؤيد المقاومة على اختلاف أدواتها وتناضل بوجه التطبيع بما أمكنها من هوامش حرية هي الأخرى سُلبت منها أمام اتهام معظم أشكال المقاومة بالإرهاب.

جرائم الإسرائيلي التي لا تقف عند حد، هي ما دفع بالشارع للنظر في ظروفه كافة وخياراته، فلم يجد إلا السكين، وهي مرحلة قد تؤرخ لتحول في الفهم الفلسطيني للمشروع الصهيوني ومواجهته، أما التساؤل عن مدى استمرارها أو دورها مستقبلا، أو محاكمتها من موقع الترف الفكري، فهو سابق لأوانه في ظل الوضع العربي المحيط بفلسطين والفلسطينيين.


(كاتب فلسطيني/ موسكو)