إلغاء وعد بلفور تصحيح لخطأ الأمم المتحدة
أكثر من ثمانية ملايين لاجئ فلسطيني في أماكن اللجوء والشتات، واستيلاء العصابات الصهيونية على كامل مساحة فلسطين التاريخية، وتدمير 531 قرية، واحتلال القدس والمسجد الأقصى المبارك، أبرز معالم الحصيلة النهائية للخطأ الاستراتيجي، الذي ارتكبه المجتمع الدولي بالاعتراف بالوعد، الذي أطلقه وزير خارجية بريطانيا، آرثر بلفور، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبعد 97 عاماً، لا يزال هذا الخطأ مستمراً، وتداعياته الخطيرة مستمرة، وآخذة بالتفاقم يوماً بعد آخر، إن لم تتدارك الأمم المتحدة وتُقرّ بهذا الخطأ الاستراتيجي، الذي ارتكبته باعترافها بالوعد، تمهيداً لإلغائه بالكامل، وشطبه عن ساحة السياسة الدولية، خطوة تصحيحية لمسار عقود من الهيمنة والتسلط على المنظومة الدولية، تُمهِّد لعيش الكل الإنساني بأمان وسلام واستقرار؛ فالخطوة ستليها خطوات أخرى، لتنقية المؤسسة الدولية من الشوائب، بعيداً عن الاستغلال السياسي للقانون ودوره المقيت في تشويه صورة الحقائق وتزييفها، واللعب على مضامين القوانين، بما يتناسب مع مصالح الدول القوية والنافذة.
بتوقيع اتفاقية سايكس بيكو في مايو/أيار عام 1916، تم تقسيم المنطقة العربية جغرافياً، واحتلالها من الدول العظمى، فكان الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917. جاء مؤتمر سان ريمو في إيطاليا في إبريل/نيسان من عام 1920 ليعتمد الانتداب البريطاني على فلسطين، بشكله الرسمي متضمناً وعد بلفور، فقد أشار البند الثالث من نتائج المؤتمر إلى "وضع فلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور". وفي 1922، أُنشِئت عصبة الأمم بهدف إحلال الأمن والسلام في العالم. تم إطلاق وعد بلفور في 1917، ولا تزال بريطانيا تحمل صفة "دولة محتلة" لفلسطين، الخطأ الرئيسي الذي وقعت فيه الدول، التي كانت تُعدُّ لتشريعات ومقررات عصبة الأمم بأن ضمت وعد بلفور لتلك التشريعات في 1922/9/11.
وفقاً للقانون الدولي، لا يحق لبريطانيا، كدولة محتلة، أن تعطي أو أن تَعِد بإعطاء الدولة التي تحتلها لغرباء جاؤوا من مختلف أقطار المعمورة، ولم يكن هذا ليحدث، لولا وسائل الضغط المختلفة والنفوذ السياسي، الذي مارسه اللورد ليونيلد روتشيلد، أحد أثرياء الجالية اليهودية في بريطانيا ووجهائها، وهو الذي خاطبه بلفور بالوعد المشؤوم، ونفوذ القادة السياسيين من الصهاينة، وفي مقدمهم، حاييم وايزمان، الكيميائي الذي قدم خدمات كبيرة للجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، فقد رضخ القانون للسياسة في معترك القوة والنفوذ والظلم والاستبداد.
فشلت عصبة الأمم في تحقيق الهدف، الذي أُنشِئت لأجله، لتندلع الحرب العالمية الثانية، ولتنتهي مع قيام 51 دولة بالاتفاق على إنشاء هيئة الأمم المتحدة، لتنطلق أعمالها في 1945/11/24، ولتحمل الهدف نفسه، ولتزيد عليه "حفظ السلام عن طريق التعاون الدولي والأمن الاجتماعي"، لكن مسار "حفظ السلام" في فلسطين كان يسير بشكل مخالف للسلام الذي تَخُطُّه الدول، و"التعاون الدولي" كان يمارس بشكل متناقض، لخنق فلسطين وممارسة مزيد من الضغط على المقاومة الفلسطينية، لإحراجها تمهيداً لإخراجها من مشهد المدافع والقضاء عليها نهائياً، ففي وقت كانت تدور فيه رحى المعارك الطاحنة بين الدول، كانت العصابات الصهيونية، وبمؤازرة قوات الانتداب، تعمل على الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتهجير المزيد من السكان، وتدمير المزيد من القرى، وارتكاب المزيد من المجازر، وتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، حراكاً منهجياً استمر 30 عاماً، لتهيئة الدولة المنتدَبة بكامل أركانها من مطارات وموانئ ومرافق حيوية وطرقات ومصانع.. لتسليمها إلى العصابات الصهيونية، أما "الأمن الاجتماعي"، فكان آخر ما يمكن الحديث عنه في الوسط الفلسطيني، حيث أعمال التخويف والترهيب وفرض المزيد من الضرائب من الانتداب، وبث سياسة الهمس والإشاعات من المستوطنين والعصابات الصهيونية لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، والمفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي كانت تُكتب فيه تشريعات هيئة الأمم المتحدة الجديدة، كانت تشريعات عصبة الأمم قد ضُمت إليها، بما فيها وعد بلفور، ولترسم شكلاً جديداً من الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية والإسلامية، وتأثيراً مباشراً على السياسة الدولية.
نعتقد أن استعادة هيبة الأمم المتحدة ومكانتها بين الشعوب، التي ظُلمت واضطهدت وفقَدت كرامتها، نتيجة أعمال القتل والتدمير والتهجير واللجوء، تتطلب إعادة رسم خريطة المنطقة من جديد، على أساس العدل والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه، وتفكيك صنم هيكل الأمم المتحدة، الذي بقي على حاله، رغم مرور نحو سبعة عقود، لا سيما مجلس الأمن الدولي، واحتفاظه بسياسة حق النقض المعروف بالفيتو. في سنة 2005، وفي خطوة جريئة غير مسبوقة، بادر الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان، إلى تقديم اقتراح للجمعية العامة للأمم المتحدة بتغيير معايير الفيتو في مجلس الأمن، إلا أن الاقتراح لا يزال في أدراج الأمم المتحدة، يأكله الغبار، مثل غيره من مشروعات القرارات والقوانين، والتي لا تنسجم مع مصالح الدول النافذة في العالم، لا سيما أميركا الحليف العضوي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تَعتبر أن شرعية وجودها تستند إلى كل من وعد بلفور والانتداب البريطاني على فلسطين، في المقابل لا وجهة قانونية سواءً لوعد بلفور، أو للانتداب، الذي "أهدى" فلسطين للعصابات الصهيونية، مخالفاً بذلك القوانين الدولية، بتهيئة الشعب الفلسطيني لحق تقرير المصير، وما بُني على باطل فهو باطل، ولو لم يتم الاعتراف الدولي بدولة الاحتلال على 78% من أرض فلسطين عام 48، لما كان قد تجرأ الكيان الاسرائيلي على احتلال الجزء الثاني في 1967.
تغيير منهجية وسياسة الكيل بمكيالين، التي تمارسها الأمم المتحدة، والخضوع لنفوذ القوى السياسية في العالم، يتطلب إجراء تحليل موضوعي وعلمي من الأمم المتحدة نفسها لرؤية الشعوب للمؤسسة الدولية، وكيف تنظر إليها تلك الشعوب، في ظل موازين القوى، ورجاحة كفة النفوذ والهيمنة على قوة الحق، ووعد بلفور ليس الوحيد الذي يجب أن تلغيه الأمم المتحدة من تشريعاتها.