إلى متى الحزم العاصف؟
لم يكتبها أحد، ولم يناقشها، أو يصوّت عليها، برلمان؛ لكنها هنا، بين كل ترسانتنا القانونية؛ تمارس تهتكها، وتغتصب كل المدونات الرسمية. هي مدونة المدونات، إن شئت، ما دامت بكل هذه القوة التي تربك الدولة كلها، بدءاً من اقتصادها.
في محرقة طانطان، أخيراً، إذا ثبت الثابت الذي يقول به العارفون بتضاريس الاقتصاد المتوحش في المنطقة، لم تصطدم حافلة بشاحنة، لتضيف حكاية إلى ألف حادثة وحادثة التي ترويها شهرزاد الطرق كل يوم في مغربنا الاستثنائي، بل أغارت مدونة التهريب الإرهابي على مدونة السير المسالمة، بل المنفتحة على كل المخالفات والاختلافات القيادية.
تسمح هذه المدونة، قوية الحضور، كالدستور الإنجليزي غير المكتوب، بأن تسير شاحنة عادية، لكنها في منتهى الجرأة، محملةً ببنزين يفوق الحاجة اليومية لعشرات الشاحنات، ربما انطلاقاً من منطقة "اخنيفر" التابعة لإقليم العيون إلى مشارف طانطان، لتباغت فريقاً رياضياً تلاميذياً بحفاوة غريبة، لم تدر بخلدهم في آخر أيامهم في الحياة.
رحمهم الله جميعاً، وشافى الجرحى، ولا نامت أعين المستهترين من السائقين، المهربين، وكل المفترض بهم حماية المدونات المعنية، ولم يفعلوا.
شاحنة معربدة، على مدى مئات الكيلومترات، من دون أن تتشجع ولو مادة واحدة، من جميع مدونات الدولة، لإيقافها، قبل بلوغ ذروتي الشبق التهريبي الإرهابي والاقتصاد المتوحش.
أي جبن قانوني هذا الذي يعرض حياة عابري السبيل إياه وغيره، ومنهم حتى حماة القانون، لخطر الموت حرقاً، والذي يضاف إلى الموت اصطداماً الذي أصبح كابوساً يلازمنا جميعاً في حلنا وترحالنا؟
تعددت مراتب الإرهاب ومراقبه، لكنه يظل في النهاية واحداً. ليس الإرهاب فقط ما نعرف، وما تداهمنا جرائمه التي تقتات من أشجار الزقوم النابتة في جميع الأديان، بل هو أيضاً الجشع المادي، حينما يقرر السير منتفشاً فوق جماجم العباد، مخرباً اقتصاد الدولة الذي لا يقل أهمية عن عقيدتها.
من الجنوب يرحل "أمودو" الاقتصاد المتوحش إلى الجهة الشرقية، حيث يتحرك أسطول كامل من الناقلات داخل لغة التهريب، بما هي لغتنا الرسمية الثالثة. مقاتلات خارج جميع المدونات، وخارج حتى الهندسة التقنية، كما تتحكم فيها شركات إنتاج السيارات. مقاتلات تمتلك كل أسباب الإرهاب والرعب، بسرعة فوق العادة، وعجلات أكثر، وخزانات تفضي إلى خزانات. مقاتلات لا تقاسم السيارات العادية شيئاً، عدا الطريق تضيق فيها الخناق كما تشاء، و"تدعش" فيها من تشاء على هواها. حينما تدلي أنت، ومعك أسرتك، برخصة السياقة، التأمين، الضريبة والورقة الرمادية، وحقك في الحياة محمية من طرف الله تعالى والدولة.
تتجاوزك في الطريق بسرعة مذهلة، مقاتلات متلاحقة، متفردة ومجتمعة؛ ولا تستغرب أن تجد، بعد حين، في الطريق نفسها قوة عمومية، تبدو وكأن سرب القَطا هذا لا يعنيها في شيء.
كل هذا، إضافة إلى ضحاياه حرقاً ودهساً، بمن فيهم رجال القوة العمومية، معروف في الجهة، منذ دفق البنزين الجزائري الذي يعود (ليس صدفة) إلى سبعينيات القرن الماضي.
ما لا يتم الانتباه إليه هو ضبط نسبة مهمة من النشاط الاقتصادي للجهة على إيقاع البنزين الجزائري. من كان منكم من دون بنزين مهرب فليرجم الجزائر. لو نطق المسيح ثانيةً، لقالها اليوم في حق من يسأل عن نبض الاقتصاد في الجهة الشرقية؛ ضمن أي دورة دموية هو؟
تغلغل هذا البنزين المارق، وما يسير في ركابه من حبوب الهلوسة، ضمن النسيج الاقتصادي كله:
ضمن الإنتاج الفلاحي، والصناعي، والمعماري، وحتى الصحي. خالط النسيج الاجتماعي، حتى غدا ثقافة مكتملة وفاعلة، أثرت حتى في الأداء الفني الفولكلوري. حتى خريطة وجدة، حاضرة الجهة، غدت بأسواق وحواشٍ تمحى من هندسة التهريب المغرضة. وعليه، لا تنقص المدينة غير الراية الجزائرية، كما تندّر، ذات خطاب، الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
انتبه إلى هذا من دون أن يلتفت، طبعاً، إلى الراية المغربية التي ترفرف، للأسباب نفسها، فوق الغرب الجزائري المحاذي للمغرب.
وعليه، فعلى الرغم من العناية الملكية المعمارية، أساساً، والتي رقت المدينة من هيئة القرية الكبيرة، إلى مستوى الحاضرة المنذورة لأداء دور مغاربي كبير مستقبلاً؛ حينما ينقشع غبش السياسة المتوحشة التي تمارسها الجزائر، بأسلوب المهربين؛ لا يزال نبض اقتصادها من قلب الجزائر؛ إن كف كفت.
لا يجب أن يريح الجهة الشرقية في شيء انشغال أغلب العاطلين بالتهريب، إلى حين. إن اقتصاد التهريب، وفي جميع الجهات، مجرد ملهاة للشباب، تنتهي بمآسٍ لا حصر لها؛ لا تشكل الطرقية منها سوى وجهها البارز.
وسواء تعلق الأمر بمخاطر نقل البنزين المهرب من جنوب المغرب صوب شماله، أو من غرب الجزائر إلى شرق المغرب، وصولاً إلى وسطه، فإن أوان الحزم العاصف قد آن، ما دامت البلاد قد نهدت لمطاعنة الإرهاب، كيفما تسمى، عبر الخريطة العربية كلها؛ وصولاً إلى عدن.
إن حمامة المواطنة الصادقة والمناضلة، في شرق المغرب، كما في جنوبه وصحرائه، أغلى من عصفور النار الذي يحلق فوق ناقلات سكرى لبنزين منهوب من خزانات الدعم المغربية والجزائرية.