إلى متى سيصمد "الإخوان"؟
على الرغم من كل الضغوط والمآسي التي تعرّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد الانقلاب العسكري (3 يوليو/تموز 2013)، وما مرّ عليها وأنصارها وحلفائها من مذابح واعتقالات لآلاف الأفراد؛ فإنّها تمسّكت بالخيار السلمي في احتجاجاتها المناهضة لمحاولة تكريس الحكم العسكري والأمني الجديد، والعودة إلى المسار الديمقراطي السابق. لكن قدرة الجماعة على الصمود السلمي تبدو، حالياً، موضع شكّ، وفي اختبارٍ صعب وشاقّ، إن لم نقل إنّه من أشدّ الامتحانات التي مرّت عليها، ليس فقط من زاوية ما تعرّضت (وما تزال) له من "محنة" غير مسبوقة، على صعيد القتل والاعتقال، ما طاول الأبناء والأقارب، أو حتى الحملة الإعلامية الداخلية، أو الأجندة الإقليمية العدائية ضد الجماعة ومشروعها، بل حتى، أيضاً، على صعيد تماسكها الداخلي، وقدرتها على اجتراح خطاب عميق لأفرادها، يقنعهم بجدوى الخطّ الراهن ونجاعته، أو في الحدّ الأدنى صحّته ومصداقيته في مواجهة التحديات القاسية!
صحيحٌ أنّ الجماعة تعرّضت لمحنٍ تاريخية سابقة، لا تقل كثيراً في وطأتها عما يحدث حالياً، ورأينا أعضاءً من الجماعة يتسرّبون إلى تأسيس جماعاتٍ تتبنّى العمل المسلّح، خرجت من رحم السجون والمعتقلات، ما أدّى إلى ظهور خطاب سيد قطب، الذي تجاوب مع لحظة المحنة والابتلاء، وقدّم تفسيراً لها، وأصبح خلال "مرحلة الجدب" تلك بمثابة الخطاب الإخواني الرئيس، حينها. لكنّ هذه اللحظة التاريخية أكثر تعقيداً وصعوبة، إذ تبدو فيها الجماعة، بالفعل، "عالقة"، من دون أن ترى أفقاً واضحاً للحل، أو الخروج من هذا الواقع، فهي لا تعاني فقط من المحنة والابتلاء في مواجهة النظام الأمني الراهن، بل، أيضاً، عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة واقعية، مقنعة لأبنائها وأنصارها، تصلّب تماسكها وقدرتها على الحفاظ على المسار الحالي؛ لأنّها، وهذا هو جوهر المأزق الراهن، بنت رهاناتها في مواجهة الانقلاب، وقولبت خطابها التعبوي والسياسي على فكرة رئيسية تتمثل في ضرورة إفشال الانقلاب وإسقاطه سريعاً، عبر الحراك السلمي المدني. أي أنّها فقط تعاملت مع حسابات "قصيرة المدى"، لا بعيدة المدى، وكلما يمر الوقت، ويتراجع الزخم الشعبي، جراء شدة القمع وقساوته، فإنّ الآمال على هذه الرهانات ستتبخر أكثر، ويبدأ التفكير لدى جيل الشباب بحلول أخرى جديدة مختلفة.
ما يزيد من تعقيد هذا المأزق أنّ القيادات إمّا في السجون أو في الخارج، وقنوات التواصل ضعيفة جداً، وفي كلا الحالتين، ثمة عزلة عن الواقع، وعجز عن اتخاذ قرارات عميقة ميدانية مهمة ومؤثّرة، والاعتراف بالأخطاء الفادحة التي تمّ ارتكابها قبل الانقلاب، وتقديم رؤية استراتيجية نقدية تصالحية مع القوى والشرائح الاجتماعية التي خسرتها الجماعة في المرحلة السابقة.
في الأثناء، من الواضح أنّ رهان "الإخوان" أخذ يتحوّل بالتدريج (وهو ما التقطه بذكاء الزميل خليل العناني في مقالته عن الحراك الإخواني في "العربي الجديد"، قبل قرابة شهرين) إلى تعزيز خطاب المحنة وسرديتها، والاعتماد على ما تفيض به أدبياتها من الحثّ على فضيلة الصبر والصمود، وتحاول أن ترضي الشباب المتحمّس، ميدانياً، عبر تطوير أدبيات الحراك نحو ما يسمى بـ"الإيجابي" (من الاحتجاج الناعم إلى الخشن). وفي هذا السياق، تمّ اجتراح قاعدة "ما دون الرصاصة ليس عنفاً"، للتخفيف من ضغوط الشباب الذين يتساءلون عن جدوى السلمية اليوم!
في السابق، كان طموح الإخوان المسلمين هو الوصول إلى السلطة، عبر صندوق الاقتراع، وتحول مفهومهم للدولة الإسلامية، بالتدريج، في الأعوام السابقة، ليكتسب مضموناً شبه ديمقراطي. وعلى الرغم من التضييق والاعتقالات، فإنّ الجماعة أتقنت لعبة المشاركة السياسية المحدودة في ظل الأنظمة شبه السلطوية، في مرحلة حسني مبارك، وخلقت أفقاً محدوداً للأمل في المستقبل. أمّا الآن، فالأفق أُغلق تماماً، والمسار الديمقراطي تعطّل بالكلية، مع حالة إقليمية تقودها الأنظمة المحافظة الحليفة للرئيس عبد الفتاح السيسي، أشد عداوة للإخوان من أيّ وقتٍ مضى، وتحاول دفع الجماعة دفعاً لتبنّي العمل المسلّح، وصولاً إلى الزج بها نهائياً في خانة "الحرب على الإرهاب"، لتحقيق دعوى هذه الأنظمة بأنّه لا يوجد فرق بين إسلام معتدل أو متطرف، وكلاهما يؤمن بالعنف، ويشكل خطراً على التهديد الإقليمي والأمني.
إذا استمرّ الوضع الراهن، وهو كذلك على الأرجح في المدى المنظور، وبقيت قيادة الجماعة عاجزة عن التفكير "خارج الصندوق"، واجتراح رؤى جديدة، فإنّ الشباب الإخواني سيجد نفسه أمام ثلاثة خيارات: الأول، وهو الأغلب، التوجه نحو العمل المسلّح، في الداخل أو في الخارج، مع إغراء نموذج تنظيم "داعش"، بما يمثله من جاذبية القوة والانتقام والمواجهة مع العلمانيين والقوى الأخرى، خصوصاً بعدما بايعت أنصار بيت المقدس التنظيم. والثاني هو التفكير في النموذج الأردوغاني- التركي، وهو خيار ضعيف أو الأقلية، وربما هنالك نموذج عبد المنعم أبو الفتوح، الذي عجز، إلى الآن، عن إحداث اختراق شبيه، لاختلاف المعطيات السياسية عن الحالة التركية. والثالث خيار الاستنكاف والتخلّي عن العمل السياسي والنشاط تحت وطأة اليأس والإحباط.
ربما يعد إقدام الناشطة الحراكية، الإخوانية سابقاً، زينب المهدي، على الانتحار، بعد دخولها في حالة من الاكتئاب الشديد واليأس في الأشهر الأخيرة، مثالاً صارخاً على المأزق الراهن. بالضرورة، لا يمكن أن يبقى الوضع الحالي في مصر، إلاّ إذا كانت القوانين الاجتماعية خاطئة، ومثل هذه "الهستيريا" العسكرية والأمنية والإعلامية لن تنجح في الاستمرار، لكن الإخوان والنشطاء الآخرين بحاجة إلى نقل رهاناتهم وخطابهم ورؤيتهم من المدى القريب إلى المتوسط والبعيد، لكي ينجحوا في الاستمرار والعودة إلى المسار الديمقراطي.