ثمّة كتبٌ تتطَّلبُ من القارئ إيقاعاً معيَّناً، تناغماً ما، ضبطاً موسيقيّاً محدَّداً. يَصعُبُ ابتلاع مضمونها بسرعة مئة كيلومتر في السّاعة. كذلك يستحيل التنقل بين صفحاتها وهضم مفرداتها كما يبتلع المدخِّن نيكوتين تبغه. يتعذَّر علينا فيها إشعال فصل من فصولها بعقب الفصل السابق. نتحدَّث عن كتبٍ قويَّة تروّض بدءاً من استهلالاتها القارئ الشرس وتدجّنه. ما إن نفتح أغلفتها حتّى تفرض علينا قواعد تضبطنا وتُلزِمنا. نتحدَّث عن كتب فريدة، غالباً ما تكون جوهريَّة. نصل إليها كما نتعثَّر، مصادفةً، ومن غير قصد، بشارع من شوارع الطفولة. حينها تتوقَّف عقارب السّاعة ويتجمَّد الزّمن. وبدل أن نجول في ذاك الشارع الطفوليّ، نرى الشارع يجتاحنا ويجول فينا.
لهذا الغرض توجد الكتب أيضاً: كي ننتقل فيها من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة. إنَّما، بالطبع، قبل ذلك، كي ننتقل من جزء في أعماقنا وأعضائنا إلى جزء آخر. كي نصعد درجات وجودنا ونهبطها. ربَّما لهذا السبب، تحديداً، مدح بورخس اختراع الكتب عادّاً إيّاها من أكثر الاختراعات البشريَّة روعة وسحراً، وموضّحاً أنَّ كلَّ الاختراعات الأخرى هي امتدادٌ لجسد الإنسان: "المجهر والتلسكوب هما امتدادان للبصر؛ والهاتف هو امتدادٌ للصوت، أمَّا السيف والمحراث فهما امتدادان لليد. إلَّا الكتاب، فهو شيء مغاير تماماً. إنّه امتدادٌ للذاكرة والخيال".
هذا هو شأن كتاب "بين حنايا القصب. اختراع الكتب في العالم القديم"، لمؤلِّفته إيريني باييخو، والصادر عن دار سيرويلا (2019). من الصفحات الأولى يرى القارئ نفسه في رحلة تعود بنا إلى تاريخ صناعة الكتب. رحلة عبر حياة تلك القطعة الأثريَّة الرائعة التي ابتكرناها كي تتمكَّن كلماتنا من السفر عبر الزمان والمكان. يتناول الكتاب تاريخ الكتب في أشكالها كافَّة، التي جُرِّبت على مدى ثلاثين قرناً تقريباً: كتب الدخان، والحجر، والطين، والقصب، والحرير، والجلد، والأشجار وصولاً إلى أحدثها من كتب البلاستيك والضوء.
تقول إيريني باييخو في مقدّمتها الشّائقة: "فرسان يمتطون صهوات خيولهم جاؤوا من اليونان. تسلَّقوا الجبال. عبروا الوديان، واجتازوا الأنهار. الخطر يطاردهم من كلِّ جانب. زمن عنيف، والحرب من كلّ صوب. غير أنَّهم صيَّادون ماهرون، يعرفون جيّداً كيف يوقعون بفريستهم. عمَّ يبحثون؟ عن الكتب. يبحثون عن الكتب. لقد زوَّدهم حاكم مصر العظيم، بطليموس، بمبالغ عظيمة من المال، وأمرهم بعبور البحر للحصول على جميع كتب الأرض من أجل مكتبته العظيمة في الإسكندريَّة".
الكتاب، وكما سيتبيّن لقارئه، ليس مجرَّد سرد تاريخيٍّ لعمليَّة تطوّر الكتب القديمة، بل رحلة تبدأ من بوصلة العنوان لنتوقَّف فيها على الطريق في محطَّات معارك الإسكندر، وعند سفح جبل فيزوف البركانيّ، في قصور كليوباترا، وفي مسرح جريمة هيباثيا. في أوّل مكتبات نعرفها، وفي ورشات المخطوطات المكتوبة باليد. في النيران التي أحرقت المخطوطات الممنوعة، وفي معتقلات سيبيريا، ومكتبة سيراييفو، ومتاهة أكسفورد تحت الأرض، عام 2000. إنَّه خيط يربط العالم الكلاسيكيّ بالعالم المعاصر والسريع في عقدٍ من الطروحات والمناقشات الجارية: أرسطوفانيس والإجراءات القانونيَّة ضدّ الفكاهيين، الشاعرة سافو وصوت المرأة الأدبيّ، سينيكا وما بعد الحقيقة.
إنّما، قبل هذا كلّه، تتناول المؤلّفة المغامرة الجماعيّة لآلاف الأبطال الذين جعلوا، على مرِّ الزمن، من الكتب ممكناً، وحموها لنا، أقصد: الرواة الشفويون، والنّسّاخ، والرسّامون، والمترجمون، والبائعون الجائلون، المعلّمون والحكماء، الجواسيس والمتمرّدون، الراهبات والعبيد، وأخيراً القرّاء في المناظر الطبيعيَّة الجبليَّة، وأمام البحر الصاخب. قرَّاء العواصم حيث تتركَّز الطاقة، وقرَّاء المناطق النائية أنّى توجد المعرفة في أوقات الفوضى. ناهيك عن الأشخاص الذين لم يسجّل التاريخ أسماءهم، لكنَّهم أنقذوا الكتب. كلّ هؤلاء هم أبطال الكتاب، كما تؤكِّد الكاتبة.
بهذه الطريقة تتمكَّن باييخو من إشراك القارئ كبطل في عملها، موضِّحة العلاقة الغامضة التي تربط المؤلّف بالقارئ، الغاوي بالمغويّ، باعتبار الكتاب أداة للتجربة المشتركة، تُزال من خلاله حواجز الزمان والمكان.
وبطبيعة الحال، لم يخلُ الكتاب من تأمُّلات حول التنبّؤات التي تقول بنهاية عالم الكتاب، ولا سيّما أنَّ هذه التوقّعات تتوافق مع حدسنا في الألفيّة الثالثة: "مواعيد زوال الأشياء تقترب أكثر فأكثر. الخزانة يجب أن تُجدَّد بما يناسب الذوق العام، والهاتف المحمول الأحدث يحلُّ محلَّ القديم. أجهزتنا الإلكترونيَّة تطلب منَّا دائماً تحديث التطبيقات والبرامج. إن لم نتنبه ونستيقظ، فسيأخذ العالم منّا زمام المبادرة".
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الأدوات التي اخترعناها لمساعدة الكتاب في البقاء غير مشجّعة. مع ذلك، تبدو الكاتبة متفائلة وتقول: "من الخطأ الاعتقاد أنَّ كلَّ حداثة تمحو التقليد. لقد جاء الهاتف المحمول تقليداً للوح الطين في بلاد ما بين النهرين. وفي شاشات هواتفنا نفكّك النصوص كما هي الحال في لفائف البردي القديمة".
غير أنَّ سحر هذا الكتاب يكمن في أسلوب مؤلّفته. لقد قرَّرت باييخو، بذكاء وبراعة، الابتعاد عن الأسلوب الأكاديميّ واختيار صوت راوية القصص والحكايات لنراها عبر صفحات الكتاب تسرد التاريخ في شكل خرافة، وليس كسلسلة وثائق وحواشٍ. وهذا ما دفع كبار النقّاد والكتّاب إلى مدح الكتاب وعدّه من أفضل إصدارات عام 2019، ليحصد بذلك جائزة أفضل كتاب عن فئة الدراسة، وليقول عنه الروائي البيروفي ماريو بارغس يوسا، إنَّه "كتاب فريد. من أجمل ما كُتب حقاً عن الكتب".
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الكتب العظيمة، هذه التي تفرض عليك إيقاعها وقواعدها، يصعب العثور عليها عادة. وعلى الرّغم من كونها كتباً ضروريّة وجوهريّة، يصعب رؤيتها على رفوف الإصدارات الحديثة. عليك أن تكتشفها، وأن تصل إليها بنفسك. وهذا شأن "بين حنايا القصب".
جدير ذكر أنَّ إيريني باييخو هي كاتبة إسبانيَّة وأستاذة الأدب الكلاسيكيّ في جامعتي سرقسطة وفلورنسا. لها العديد من الأعمال والدراسات الأدبيَّة، وحازت أكثرَ من جائزة في إسبانيا.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا