وهي مناظرة تاريخية لاعتبارات عديدة منها قبول المرشح الشاب ماكرون، الذي كان قبل سنة، فقط، غريبا عن السياسة وعوالمها، فإذا به، الآن، المرشَّحَ الأوفر حظّاً لحكم فرنسا، لمناظرة المرشحة المنافسة، على خلاف موقف الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك سنة 2002، الذي رفض حينها مناظرة والد لوبان، جان ماري لوبان، لأنه اعتبر حينها أنها لن تعود عليه بالفائدة، وأن خصمه سيستخدمها لاستعراض أفكاره الشوفينية والفاشية والتجريح بخصمه.
وهي أيضا محفوفة بالمخاطر، لأن النقاش قد يصل إلى مستويات قاسية، فماكرون يريد كشف الوجه الحقيقي للوبان، في حين تريد الأخيرة أن تخرج ماكرون من أطواره.
والجميع يعلم أن لوبان، لها خبرة كبيرة في استخدام كل الأسلحة والإشاعات لزعزعة خصومها، خاصة حين يتعلق الأمر بقضايا الأمن والإرهاب والمهاجرين والإسلام.
وهو ما يدركه ماكرون، الذي ظل في معظم لقاءاته وخرجاته الإعلامية، هادئا ورصينا، والذي وعد أنصاره بأنه سيكون هجوميا، ولن يتردد في مواجهته غريمته، بما تتطلبه ظروف الرد.
ويرجح أن يدور الجدل حول برنامجي المرشحَين وخاصة عن أولوياتهما، وحول القرارات الأولى التي ستعقب توليهما السلطة، استجابة لانتظارات الفرنسيين.
وهنا سيركز ماكرون على إصلاح قانون الشغل عبر مراسيم، وهو ما قد يهدد بصدام مع المركزيات العمالية المعارضة، ولكنه وعد بألا يتراجع، كاشفا أن خطأ الرئيس فرنسوا هولاند كان في انتظاره السنة الأخيرة من ولايته لإصلاح الشغل.
أوروبيا، ومثل كل الحكومات المتعاقبة، يمينا ويسارا، يؤكد ماكرون على ضرورة الحفاظ على "الزواج الفرنسي الألماني" داخل الاتحاد الأوروبي. ومن أجل تشجيع عجلة الإنتاج، أعلن أنه سيقوم بتبسيط حياة أرباب الشركات الصغرى.
ولكن لوبان توجد في عالَم آخَر، فهي تَعِد ناخبيها، بأن تقوم بإعادة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول السيادة الفرنسية.
وفيما يخص الهجرة القانونية، ستقوم بوقفها، مؤقتا، وهو ما سيستلزم، في نظرها، إعادة فرض المراقبة على حدود فرنسا مع جيرانها.
وفيما يتعلق بمكافحتها للإرهاب، فهي ستقوم، في حال فوزها، بطرد كل الأشخاص المتهمين بالإرهاب، والذين تقوم السلطات الأمنية بمراقبتهم، ووضع أسمائهم في قوائم خاصة بذلك.
وفي التفاتة إلى جيوب الفرنسيين، وادعائها بأنهم يدفعون ضرائب أعلى من طاقتهم، أعلنت أنها ستقرر خفضها في حال أصبحت رئيسة لفرنسا.
وإذا كان كلّ شيء في هذه المناظرة الحاسمة مدعاة للجدل، ابتداء من فهم وتصوّر كلا المرشحين للديمقراطية والعلمانية والهجرة واللاجئين، وأيضا قراءته لماضي فرنسا الكولونيالي، وتاريخها وثقافتها/ ثقافاتها، فإن أوروبا واليورو سيكونان حاضرَين، بقوة، وسيحسمان مصير المناظرة ومصير التصويت يوم الأحد القادم.
ولا يخفى على أحد أن ماكرون من أنصار الاتحاد الأوروبي، وليس سرا مدى الارتياح الذي قُوبل به ترشحه للدورة الثانية من الرئاسيات في كل العواصم الأوروبية وأيضا في الأسواق المالية العالمية. ولهذا سيكون شرِساً في الدفاع عن الاتحاد الأوروبي والعملة الأوروبية في وجه لوبان مترددة ومتناقضة، أحيانا، خصوصا وأن المجال هو مجاله، بامتياز.
ويُجمع المراقبون على أن لوبان "وقعت في فخ برنامجها المجنون في الانسحاب من اليورو"، كما قالت صحيفة لوفيغارو اليمينية. ولهذا السبب، بدأت، قبل أيام، انعطافة إلى الوراء، ولم تعُد تُشهر، هذا الانسحابَ في لقاءاتها وتصريحاتها الانتخابية، في محاولة منها لطمْأنة جمهورها، الذي بدأ يكتشف، مع تأكيد معظم الخبراء الفرنسيين والأجانب، أن الانسحاب من اليورو سيكون كارثة، بكل المقاييس.
اليورو سيكون حاضرا بقوة، وربما هو الموضوع الأساس الذي سيستطيع من خلاله ماكرون أن يقنع به الناخبين الفرنسيين بلاواقعية مشروع لوبان لحكم فرنسا، المشروع الذي سيجعل الفرنسيين معزولين عن العالَم، وبالتالي أقل تأثيراً في السياسة والاقتصاد العالميَين.
يأتي هذا اللقاء في ظل تفوق واضح لماكرون على لوبان في تقدير الرأي العام الفرنسي.
ولعلّ شبابه (وقد يكون عاملا تستغله مارين بدعوى غياب التجربة) وشخصيته الجذابة والسهولة التي يتمتع بها في مخاطبة الفرنسيين، جميعهم، من اليمين واليسار والوسط، عوامل هامة في تصويت الفرنسيين. وهو ما سيجلب له ناخبين كثرا، ولو أن نسبة مهمة، لن تصوّت لصالحه إلا خوفا من مشروع لوبان، ومن فهمها لما تسميه "الهوية الوطنية"، التي لا يجد كثير من الفرنسيين أنفسهم في تعريفها.
كما أنه لن يكون الأمر سهلا، على ماكرون، أيضا، في إقناع ناخبي اليسار، بمشروعه الاقتصادي الليبرالي.
وإذا كان من شبه المؤكد أن لوبان لن تستطيع أن تستدرك تأخرها عن ماكرون، إلا أن هواجس ماكرون لا تقتصر على الفوز، فقط. فكما كرر، مرات عديدة، فهو يريد فوزا ساحقا لا لبس فيه. فهذا الفوز العريض قد يمنح حملته في الانتخابات التشريعية القادمة قوة أكبر ومصداقية أوسع، ويُظهرُ ما يمكن اعتباره "انتماءً من أغلبية الناخبين لمشروعه"، ولو أن جمهور ماكرون يريد أن يفهم حقيقة "الديمقراطية الاجتماعية"، التي يتحدث عنها المرشح، من دون أن يدخل في تفاصيلها.