04 نوفمبر 2024
اتفاق الدوحة والسلام في أفغانستان
بعد مفاوضاتٍ مكثفةٍ استمرت عاماً ونيف، أثمرت جهود الوساطة القطرية (بدأت في عام 2011)، أول من أمس السبت (29 فبراير/ شباط)، عن توقيع اتفاق في الدوحة بين الولايات المتحدة الأميركية وحركة طالبان الأفغانية، يقضي برحيل القوات الأميركية عن أفغانستان خلال 14 شهراً، ممهداً الطريق لمحادثات بين الفرقاء الأفغان، تنهي أحد أطول الصراعات في العالم. وقد عزّز الاتفاق مصداقية الدبلوماسية القطرية، وكان في حدّ ذاته حدثاً تاريخياً مهماً. ومع ذلك، تبقى الفرص التي يمنحها لتحقيق السلام متواضعة، فقد بدا مضمون الاتفاق منسجماً مع الحسابات الشخصية للطرفين الموقّعين عليه، فمن جهة، هناك مبرّر للقلق بشأن الدوافع الحقيقية لحركة طالبان من توقيع اتفاق وصفته بـ "النصر" واحتفت به، ومن جهة أخرى، قد يكون الاتفاق بالنسبة لإدارة الرئيس دونالد ترامب، الباحث عن مخرج من أفغانستان قبل انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني، مجرّد غطاء لسحب قواته من أفغانستان.
لا يبدو أن "طالبان" تنازلت، بموجب الاتفاق، عما هو جوهري، وهي لن تخسر الكثير من التوقيع على صفقةٍ يمكن أن تتخلى عنها، بل قد تكسب الكثير عندما تسحب الولايات المتحدة قواتها. حتى قبل حفل التوقيع، وعدت "طالبان" بتعليق الهجمات الكبرى، ووافقت القوات
الأميركية على تعليق العمليات الهجومية، باستثناء الهجمات ضد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، خلال فترة "الحد من العنف" التي استمرت أسبوعاً، وهدفت أساساً لاختبار قدرة الحركة على ضبط نشاط أعضائها. وفي الواقع، لم تقدّم "طالبان" أي جديد خارج عن المألوف في شهر فبراير/ شباط، بشتائه الأفغاني القاسي الذي لطالما لعب دوراً في تقليص نشاط الحركة المسلح. وبموجب بنود الاتفاق المعلنة، حصلت على خروج مشروط للقوات التي تصفها بـ"المحتلة" من أفغانستان، ورأت، في بيان لها، أن "الاتفاق بشأن الانسحاب الكامل لجميع القوات الأجنبية من أفغانستان وعدم التدخل في شؤونها في المستقبل يعد بلا شك إنجازاً كبيراً"، كما حصلت على وعودٍ بأن يرفع مجلس الأمن العقوبات المفروضة على الحركة بحلول 29 مايو/ أيار 2020، يليها رفع العقوبات الأميركية عنها بحلول 27 أغسطس/ آب 2020، كما تراجعت الولايات المتحدة عن مطلبها أن تعلن الحركة صراحة قطع علاقاتها بتنظيم القاعدة، واكتفت بتعهد "طالبان" بعدم السماح لمجموعات إرهابية باستخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة.
ويقترح الاتفاق أيضاً وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وإجراء حوار داخل أفغانستان مع حكومة كابول بحلول 10 مارس/ آذار، إلا أن أي عمليةٍ سياسيةٍ في أفغانستان تنطلق على حساب أصوات البنادق تبدو متعذّرة في ظل انقسام الأمّة الأفغانية الذي عززته نتائج انتخابات سبتمبر/ أيلول الرئاسية؛ المتنازع عليها، بين الفائز المعلن عنه في الانتخابات الرئاسية أشرف غني، ومنافسه رئيس السلطة التنفيذية عبد الله عبد الله، الرافض للنتيجة (تم تأجيل أداء اليمين الدستورية لغني لولاية ثانية حتى 10 مارس/ آذار، بناءً على طلب من الولايات المتحدة)، ولا يبدو أن الرجلين يسعيان جدياً إلى حسم خلافاتهما.
وخلال معظم السنوات العشر الماضية، كانت المحادثات قد توقفت بسبب الرفض الأميركي للتفاوض في غياب الحكومة الأفغانية، ورفض "طالبان" التحدث في وجودها، ولكن ترامب ومفاوضه زلماي خليل زاد تخطيا، هذه المرة، هذه العقبة، فغابت حكومة كابول طرفاً مباشراً في الاتفاق، لتثير المحادثات بين حركة طالبان، المسيطرة أكثر من أي وقت مضى على مزيد من الأراضي الأفغانية، والولايات المتحدة، قلقاً في أوساط أفغانية واسعة، باعتبارها قد همّشت الأصوات الأفغانية الأخرى لصالح الدور غير الواضح الذي قد تلعبه "طالبان" في مستقبل أفغانستان السياسي، خصوصاً مع حالة التوجس من موقف الحركة تجاه حقوق المرأة، والأقليات، والعملية السياسية الديمقراطية برمتها. كما يعد الاتفاق بالعمل على تبادل للأسرى قبل المحادثات الأفغانية المقبلة، تشمل إطلاق سراح خمسة آلاف سجين من "طالبان" في مقابل إطلاق الأخيرة سراح ألف جندي حكومي، لكن من غير الواضح ما إذا كانت كابول التي تحتجز مقاتلي "طالبان"، وهي ليست طرفاً في الاتفاق، مستعدة لإطلاق سراح العديد من
المقاتلين الأعداء في ساحة معركةٍ لا تزال محتدمة.
قتل، خلال 18 عاماً من الصراع المسلح مع حركة طالبان في أفغانستان، أكثر من 2400 أميركي، وتكلّفت الخزانة الأميركية حوالي تريليون دولار، وانتقلت خلالها واشنطن من السعي إلى إبادة "طالبان" إلى الاجتماع بها، ثم مفاوضتها، وأخيراً؛ التوقيع معها. ومع كل منعطف، حصد البحث عن النصر مزيداً من العنف. أراد الرئيس جورج دبليو بوش عام 2001 تدمير "القاعدة"، ودحر "طالبان"، وأفغانستان "مستقرّة وحرّة وديمقراطية"، ولكن بحلول عام 2006، كانت الحركة قد بدأت تمرّدها، لينهي بوش رئاسته في عام 2008 بإرسال آلاف القوات الأميركية الأخرى للقتال بحثاً عن استعادة الأمن، متنازلاً عن آماله السابقة. ومع إدارة الرئيس باراك أوباما، تضاعف عديد القوات الأميركية، مع انخفاض التوقعات بشأن ما يمكن إحرازه، واعترفت وزيرة خارجيته، هيلاري كلنتون، باتصالات الإدارة مع "طالبان"، وأصبح الهدف هو التفاوض معها شرط فك ارتباطها بـ"القاعدة"، وتخليها عن العنف، واحترام المرأة، والأقليات، والالتزام بالدستور الأفغاني.
تعهد ترامب، منذ حملته الانتخابية، بإنهاء التورط الأميركي في الحروب، ولكن في غضون أشهر من توليه الرئاسة، كان ثالث رئيس أميركي يُضطرّ إلى رفع عديد قواته في أفغانستان، فأضاف إلى 8900 جندي منتشرين هناك حوالي أربعة آلاف آخرين، ويطمح اليوم إلى أن يؤدي اتفاق الدوحة مع "طالبان" إلى خفض العنف، وإلى مسارٍ واضح نحو إنهاء الوجود الأميركي العسكري قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، تاركاً للأفغان أنفسهم إكمال الطريق. أما
مبعوثه الخاص إلى أفغانستان، زلماي خليل زاد، فيشاركه السعي في تأمين صفقةٍ تعزّز فرص فوزه في تلك الانتخابات، وجدها في تمثيل إدارته موقّعاً على الاتفاق، وهو لا يخفي طموحه لتولي منصب وزير الخارجية في ولايةٍ ثانيةٍ محتملةٍ للرئيس ترامب.
في أفضل الأحوال، ومع انطلاق المفاوضات المنتظرة بين الأطراف الأفغانية، قد تظهر جملة من المشكلات الأكثر صعوبة، مثلاً: هل ستكون أفغانستان جمهورية إسلامية أم إمارة إسلامية؟ ما مصير مقاتلي حركة طالبان؟ كيف يمكن دمجهم في جهاز وطني جديد للجيش أو للشرطة؟ ما هي ضمانات عدم انشقاق "طالبان" تحت ضغط العملية السياسية التي قد يعرقلها منشقون يلتحقون بتنظيم الدولة الإسلامية أو غيره من الحركات المتطرفة؟
في سعيه إلى مجرد الانسحاب، بغض النظر عن حالة الحرب، ومن دون ضمانات حقيقية لعملية سياسية مستقرّة، يكرر ترامب أخطاء إدارة بوش في أفغانستان عام 2002، وفي العراق عام 2003، والتي قللت من شأن التحديات الأمنية التي قد تواجهها الحكومات الجديدة بعد الحرب، وحجم قوات الأمن الوطنية التي ستكون كافية لتأمين الاستقرار. والاتفاق ليس معاهدة سلام بين الجانبين، بل هو وفق تعبير شهير لوينستون تشرشل: "ليس النهاية، وليس أيضاً بداية النهاية، بل ربما نهاية البداية".
ويقترح الاتفاق أيضاً وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وإجراء حوار داخل أفغانستان مع حكومة كابول بحلول 10 مارس/ آذار، إلا أن أي عمليةٍ سياسيةٍ في أفغانستان تنطلق على حساب أصوات البنادق تبدو متعذّرة في ظل انقسام الأمّة الأفغانية الذي عززته نتائج انتخابات سبتمبر/ أيلول الرئاسية؛ المتنازع عليها، بين الفائز المعلن عنه في الانتخابات الرئاسية أشرف غني، ومنافسه رئيس السلطة التنفيذية عبد الله عبد الله، الرافض للنتيجة (تم تأجيل أداء اليمين الدستورية لغني لولاية ثانية حتى 10 مارس/ آذار، بناءً على طلب من الولايات المتحدة)، ولا يبدو أن الرجلين يسعيان جدياً إلى حسم خلافاتهما.
وخلال معظم السنوات العشر الماضية، كانت المحادثات قد توقفت بسبب الرفض الأميركي للتفاوض في غياب الحكومة الأفغانية، ورفض "طالبان" التحدث في وجودها، ولكن ترامب ومفاوضه زلماي خليل زاد تخطيا، هذه المرة، هذه العقبة، فغابت حكومة كابول طرفاً مباشراً في الاتفاق، لتثير المحادثات بين حركة طالبان، المسيطرة أكثر من أي وقت مضى على مزيد من الأراضي الأفغانية، والولايات المتحدة، قلقاً في أوساط أفغانية واسعة، باعتبارها قد همّشت الأصوات الأفغانية الأخرى لصالح الدور غير الواضح الذي قد تلعبه "طالبان" في مستقبل أفغانستان السياسي، خصوصاً مع حالة التوجس من موقف الحركة تجاه حقوق المرأة، والأقليات، والعملية السياسية الديمقراطية برمتها. كما يعد الاتفاق بالعمل على تبادل للأسرى قبل المحادثات الأفغانية المقبلة، تشمل إطلاق سراح خمسة آلاف سجين من "طالبان" في مقابل إطلاق الأخيرة سراح ألف جندي حكومي، لكن من غير الواضح ما إذا كانت كابول التي تحتجز مقاتلي "طالبان"، وهي ليست طرفاً في الاتفاق، مستعدة لإطلاق سراح العديد من
قتل، خلال 18 عاماً من الصراع المسلح مع حركة طالبان في أفغانستان، أكثر من 2400 أميركي، وتكلّفت الخزانة الأميركية حوالي تريليون دولار، وانتقلت خلالها واشنطن من السعي إلى إبادة "طالبان" إلى الاجتماع بها، ثم مفاوضتها، وأخيراً؛ التوقيع معها. ومع كل منعطف، حصد البحث عن النصر مزيداً من العنف. أراد الرئيس جورج دبليو بوش عام 2001 تدمير "القاعدة"، ودحر "طالبان"، وأفغانستان "مستقرّة وحرّة وديمقراطية"، ولكن بحلول عام 2006، كانت الحركة قد بدأت تمرّدها، لينهي بوش رئاسته في عام 2008 بإرسال آلاف القوات الأميركية الأخرى للقتال بحثاً عن استعادة الأمن، متنازلاً عن آماله السابقة. ومع إدارة الرئيس باراك أوباما، تضاعف عديد القوات الأميركية، مع انخفاض التوقعات بشأن ما يمكن إحرازه، واعترفت وزيرة خارجيته، هيلاري كلنتون، باتصالات الإدارة مع "طالبان"، وأصبح الهدف هو التفاوض معها شرط فك ارتباطها بـ"القاعدة"، وتخليها عن العنف، واحترام المرأة، والأقليات، والالتزام بالدستور الأفغاني.
تعهد ترامب، منذ حملته الانتخابية، بإنهاء التورط الأميركي في الحروب، ولكن في غضون أشهر من توليه الرئاسة، كان ثالث رئيس أميركي يُضطرّ إلى رفع عديد قواته في أفغانستان، فأضاف إلى 8900 جندي منتشرين هناك حوالي أربعة آلاف آخرين، ويطمح اليوم إلى أن يؤدي اتفاق الدوحة مع "طالبان" إلى خفض العنف، وإلى مسارٍ واضح نحو إنهاء الوجود الأميركي العسكري قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، تاركاً للأفغان أنفسهم إكمال الطريق. أما
في أفضل الأحوال، ومع انطلاق المفاوضات المنتظرة بين الأطراف الأفغانية، قد تظهر جملة من المشكلات الأكثر صعوبة، مثلاً: هل ستكون أفغانستان جمهورية إسلامية أم إمارة إسلامية؟ ما مصير مقاتلي حركة طالبان؟ كيف يمكن دمجهم في جهاز وطني جديد للجيش أو للشرطة؟ ما هي ضمانات عدم انشقاق "طالبان" تحت ضغط العملية السياسية التي قد يعرقلها منشقون يلتحقون بتنظيم الدولة الإسلامية أو غيره من الحركات المتطرفة؟
في سعيه إلى مجرد الانسحاب، بغض النظر عن حالة الحرب، ومن دون ضمانات حقيقية لعملية سياسية مستقرّة، يكرر ترامب أخطاء إدارة بوش في أفغانستان عام 2002، وفي العراق عام 2003، والتي قللت من شأن التحديات الأمنية التي قد تواجهها الحكومات الجديدة بعد الحرب، وحجم قوات الأمن الوطنية التي ستكون كافية لتأمين الاستقرار. والاتفاق ليس معاهدة سلام بين الجانبين، بل هو وفق تعبير شهير لوينستون تشرشل: "ليس النهاية، وليس أيضاً بداية النهاية، بل ربما نهاية البداية".