17 مارس 2019
ازدواجية الأخلاق ووحدانية الجريمة
عوني بلال
• ليست الحياة ممكنةً من دون حدٍّ أدنى مِن مناقضة الذات. قليلون منا على استعدادٍ للاعتراف بالأمر، والكثرة الباقية تنكر الموضوع، بينما هي منغمسةٌ تماماً بممارسته. لا يتعلق الأمر بطبيعتنا، باعتبارنا بشرا، قدر تعلقه بتعقيدات الواقع وتناقضات الحياة، فالأحداث من حولنا تَفيضُ مِن تلقاء نفسها بالنقائض، وتزخرُ بالأضداد، ولا يبدو الاتساق التام مع الذات ممكناً وسط هذه الفوضى العارمة. ليس هذا دفاعاً عن التناقض، أو تبريراً للاستسلام في وجهه، لكنه تنويهٌ بحدود الممكن في المعركةِ الأصعبِ للإنسان مع نفسِه؛ معركَتِهِ وهو يحاولُ الوفاءَ لقيمِه ووحدانيةِ مبادئه في مواجهة واقعٍ مُركّب، لا يشبه أبداً ما أخبرونا عنه في المدارس، ولا ما يطبعونه عادةً في الكتب.
• نتعلم في سنٍّ مبكرة سمات الفضيلة والرذيلة، وينقسم العالم في أذهاننا إلى ثنائيات الظلم والعدالة، والصدق والكذب، ثم نجدُ أنفسَنا فجأةً في مواجهة مظلومٍ يبرعُ بالكذب، وينخرط بالجريمة. ونحاول أن نحفظ مبادئنا أمام وضعٍ كهذا، فنضيف هوامش وملاحق على دستورنا الأخلاقي، ونملأ هوامشَه بالشروحات والاستثناءات، لنفهم تدريجيا أن الحياة كلَّها أوضاعٌ كهذه، وأننا، نحن البشر،ٍ مجبولون من طينة الأضداد. نلتقي بالمظلوم الكذاب، ونتعرّف بعدها على المستضعَف الغشاش، ونسمع عن البطل التافه، والمضحّي البذيء، والشهم الطائفي، وأمام كل واحدٍ من هؤلاء يتلوّى شيءٌ داخلنا ألماً، لأن وحدانية القيم حاجة غريزية فينا، وكل ما ينالُ منها ينال منا، وكل ما يؤذيها يؤذينا معها. وينزع بعضنا إلى اجتزاء الأحكام، وللتعامل مع خصال الناس بالأجزاء، لا بالكليات، ويرفض آخرون ذلك، ويصرّون على كلّية القيم، ويرفضون تعدّد الأحكام. وتنشأ معارك طاحنة بين الفريقين تنتهي، غالباً، بإسفافٍ كثير وأفكار قليلة.
• كيف تُقيّم من يضحي دفاعاً عن قضيةٍ محقة، وينخرط في جريمةٍ بحقِّ قضية أخرى؟ أو من يضحي في سبيل مسألة أخلاقيةٍ، ويرتكب في خضمها رذائل شتى؟ هل تَعتبر الخطيئة الثانية لاغيةً للفضيلة الأولى، أم تَنظر للأمرين بمعزل عن بعض؟ أم تلجأ إلى الحل الطفولي البسيط، فتنفي عنه الفضيلة أو الخطيئة (بحسب موقفك منه) عبر تأويلاتٍ بهلوانية، ونظريات متخيلة عن الواقع والأحداث، وتضمن بذلك وحدانية المشهد وراحة الضمير، عبر خداعٍ ذاتي لنفسك؟ لا يوجد جواب بسيط على هذا السؤال، وقد لا يكون هناك جواب أساساً، لكن المؤكد أن لهذه الازدواجيات أثراً تخريبياً واسعاً، وأنها تسهل انقسام الناس، لأنها تضع الجميع أمام أسئلة مرهِقة، لا جوابَ حقيقياً لها.
• لا يخلو جدالٌ سياسي في أيامنا من اتهام متبادل بازدواج المواقف وثنائية المعايير؛ المفجوع على صنعاء متّهمٌ بالانشغال عن الغوطة، والغاضب لما يجري في الغوطة متهمٌ بتجاهل عفرين، والمشغول بهؤلاء جميعاً متّهَمٌ في قسمة الأحزان وعدالةِ توزيع المراثي. والواقع أن قلائلَ جدا حزينون بحق على أيٍّ كان، فسنواتٌ من القتال والتوحش العارم لم تترك للدم قيمةً في نفوس أغلب الناس، إلا بمقدار ما يُمكن استثمارُه في حملات الدعاية السياسية والتشهير بالخصم وتسجيل النقاط. الحزن تجربةٌ فردية في العمق، وتحويله إلى بكائيات منظمة وحملات إعلامية وهاشتاغات موحّدة هو ابتذالٌ للتجربة، واصطناعٌ جماعي لشعورٍ لا يشعرُ به أحد.
• من اللافت أن كثيراً من اتهامات "ازدواج الأخلاق" لا تنبع أصلاً من ولعٍ بوحدانية الأخلاق، وإنما من العكس تماماً؛ مِن تحيّزٍ لازدواجٍ آخر، فكثيرون ممن يستخدمونها منخرطون في الازدواجية حتى النخاع. ولعل هذه التهمة اكتسبت بالتدريج طابعاً رخيصاً، بوصفها بنداً ثابتاً في كل شجار سياسي عابر، فهي تُعفي مستخدميها من الإتيان بجديد، أو التأمل العميق بما يجري، وتمنحهم، علاوةً على ذلك كله، شعوراً دافئاً بالفوقية الأخلاقية، وهم يتهمون خصومهم بالعلّة نفسها التي يعانون منها. ومرة أخرى، لا يمسّ التردّي الذي أصاب التهمة قيمة المسألة الأصلية؛ فسؤال التماسك الأخلاقي ووحدة المبدأ عصيٌّ على الاستهلاك.
• ما يبدو ازدواجاً أخلاقياً في أحيان كثيرة ليس ازدواجاً في حقيقة أمره، بل تفسّخاً متسقاً مع ذاته. إن المُتشفّي بأُسرَةٍ تلقى حتفها سحقاً بالخرسانة المسلحة لا يمكن أن يشعر بحزن حقيقي على أي كان. وما يبديه من تأثرٍ في سياق آخر، وعلى بشرٍ آخرين، ليس سوى إكسسوار انفعالي يخدم غاية سياسية. وما بين التشفّي الأول والانفعال الكاذب الثاني، ليس هناك من ازدواج في واقع الأمر، فالنفاق توأم اللؤم، وشقيقه بالوَضاعة، وكلاهما، في النهاية، تجليان مختلفان لبشاعةٍ واحدة.
• نتعلم في سنٍّ مبكرة سمات الفضيلة والرذيلة، وينقسم العالم في أذهاننا إلى ثنائيات الظلم والعدالة، والصدق والكذب، ثم نجدُ أنفسَنا فجأةً في مواجهة مظلومٍ يبرعُ بالكذب، وينخرط بالجريمة. ونحاول أن نحفظ مبادئنا أمام وضعٍ كهذا، فنضيف هوامش وملاحق على دستورنا الأخلاقي، ونملأ هوامشَه بالشروحات والاستثناءات، لنفهم تدريجيا أن الحياة كلَّها أوضاعٌ كهذه، وأننا، نحن البشر،ٍ مجبولون من طينة الأضداد. نلتقي بالمظلوم الكذاب، ونتعرّف بعدها على المستضعَف الغشاش، ونسمع عن البطل التافه، والمضحّي البذيء، والشهم الطائفي، وأمام كل واحدٍ من هؤلاء يتلوّى شيءٌ داخلنا ألماً، لأن وحدانية القيم حاجة غريزية فينا، وكل ما ينالُ منها ينال منا، وكل ما يؤذيها يؤذينا معها. وينزع بعضنا إلى اجتزاء الأحكام، وللتعامل مع خصال الناس بالأجزاء، لا بالكليات، ويرفض آخرون ذلك، ويصرّون على كلّية القيم، ويرفضون تعدّد الأحكام. وتنشأ معارك طاحنة بين الفريقين تنتهي، غالباً، بإسفافٍ كثير وأفكار قليلة.
• كيف تُقيّم من يضحي دفاعاً عن قضيةٍ محقة، وينخرط في جريمةٍ بحقِّ قضية أخرى؟ أو من يضحي في سبيل مسألة أخلاقيةٍ، ويرتكب في خضمها رذائل شتى؟ هل تَعتبر الخطيئة الثانية لاغيةً للفضيلة الأولى، أم تَنظر للأمرين بمعزل عن بعض؟ أم تلجأ إلى الحل الطفولي البسيط، فتنفي عنه الفضيلة أو الخطيئة (بحسب موقفك منه) عبر تأويلاتٍ بهلوانية، ونظريات متخيلة عن الواقع والأحداث، وتضمن بذلك وحدانية المشهد وراحة الضمير، عبر خداعٍ ذاتي لنفسك؟ لا يوجد جواب بسيط على هذا السؤال، وقد لا يكون هناك جواب أساساً، لكن المؤكد أن لهذه الازدواجيات أثراً تخريبياً واسعاً، وأنها تسهل انقسام الناس، لأنها تضع الجميع أمام أسئلة مرهِقة، لا جوابَ حقيقياً لها.
• لا يخلو جدالٌ سياسي في أيامنا من اتهام متبادل بازدواج المواقف وثنائية المعايير؛ المفجوع على صنعاء متّهمٌ بالانشغال عن الغوطة، والغاضب لما يجري في الغوطة متهمٌ بتجاهل عفرين، والمشغول بهؤلاء جميعاً متّهَمٌ في قسمة الأحزان وعدالةِ توزيع المراثي. والواقع أن قلائلَ جدا حزينون بحق على أيٍّ كان، فسنواتٌ من القتال والتوحش العارم لم تترك للدم قيمةً في نفوس أغلب الناس، إلا بمقدار ما يُمكن استثمارُه في حملات الدعاية السياسية والتشهير بالخصم وتسجيل النقاط. الحزن تجربةٌ فردية في العمق، وتحويله إلى بكائيات منظمة وحملات إعلامية وهاشتاغات موحّدة هو ابتذالٌ للتجربة، واصطناعٌ جماعي لشعورٍ لا يشعرُ به أحد.
• من اللافت أن كثيراً من اتهامات "ازدواج الأخلاق" لا تنبع أصلاً من ولعٍ بوحدانية الأخلاق، وإنما من العكس تماماً؛ مِن تحيّزٍ لازدواجٍ آخر، فكثيرون ممن يستخدمونها منخرطون في الازدواجية حتى النخاع. ولعل هذه التهمة اكتسبت بالتدريج طابعاً رخيصاً، بوصفها بنداً ثابتاً في كل شجار سياسي عابر، فهي تُعفي مستخدميها من الإتيان بجديد، أو التأمل العميق بما يجري، وتمنحهم، علاوةً على ذلك كله، شعوراً دافئاً بالفوقية الأخلاقية، وهم يتهمون خصومهم بالعلّة نفسها التي يعانون منها. ومرة أخرى، لا يمسّ التردّي الذي أصاب التهمة قيمة المسألة الأصلية؛ فسؤال التماسك الأخلاقي ووحدة المبدأ عصيٌّ على الاستهلاك.
• ما يبدو ازدواجاً أخلاقياً في أحيان كثيرة ليس ازدواجاً في حقيقة أمره، بل تفسّخاً متسقاً مع ذاته. إن المُتشفّي بأُسرَةٍ تلقى حتفها سحقاً بالخرسانة المسلحة لا يمكن أن يشعر بحزن حقيقي على أي كان. وما يبديه من تأثرٍ في سياق آخر، وعلى بشرٍ آخرين، ليس سوى إكسسوار انفعالي يخدم غاية سياسية. وما بين التشفّي الأول والانفعال الكاذب الثاني، ليس هناك من ازدواج في واقع الأمر، فالنفاق توأم اللؤم، وشقيقه بالوَضاعة، وكلاهما، في النهاية، تجليان مختلفان لبشاعةٍ واحدة.
مقالات أخرى
22 ديسمبر 2018
27 اغسطس 2018
13 مايو 2018