ازدواجية معايير بشأن تقارير حقوق الإنسان
تُصدر المنظمات الدولية المعنية برصد انتهاكات حقوق الإنسان وتوثيقها بيانات وتقارير دورية، أو استثنائية، تحيط بدولة من الدول أو بمجموعة عسكرية، أو شبه عسكرية، تقوم بأعمال تنتهك المواثيق الدولية التي تُعنى بحقوق الناس، وهي عديدة. ومن الطبيعي ألا ترضى الدول ذات أنظمة الحكم غير الديمقراطية عن نتائج هذا الرصد و"التشهير". كما ترفضه بوجل دول ديمقراطية لا تَسلم من الرصد لانتهاكاتٍ لا تقارن بما تقترفه الأنظمة الديكتاتورية. الفارق بين الرفضين يتمثل في أن رفض المستبدين يحمل جرعات من القذف والشتم بحق المنظمة المعنية، كما التخوين والتشكيك بمن عمل معها في المجال المحلي. وتتبارى أقلام المستبد، وزبائنه المحليون والإقليميون، في تبيان أوجه المؤامرة التي تُحاك ضد "صمود" الشعب و"منعة" الدولة و"استقرار" النظام" و"قيم" المجتمع، إلخ... وتجتمع هذه التوصيفات المُميّزة على شكل بيانات أو مقالات أو حتى محاكمات. في المقابل، تكتفي الدول الديمقراطية في إبداء الملاحظات النقدية بخصوص البيان الذي يعنيها، وتضيف إلى ذلك عموماً بعض الإشارات إلى ممارسات يمكن أن يتم تلافيها في المستقبل.
وبازدواجية ممجوجة، لا تستحي أنظمة مستبدة، وفي مناسبات عدة، من الاستناد إلى هذه البيانات والتقارير. وهي قد تصل إلى حد الإشادة بها، وذلك عندما تتعرّض لبلدٍ "معادٍ" أو إلى خصمٍ سياسيٍ. وتتصدر مخرجات هذه المنظمات، حينذاك، أخبار صحفها ووسائل إعلامها المسموعة والمرئية. ولا يخجل "محاموها" من الكتبة والمستكتبين في أن يشيروا بالبَنان إلى عمل هذه المنظمات، مشيدين بموضوعيتها. وأفضل مثال على الانفصام الأخلاقي المنتشر بامتياز في المنطقة العربية، هو الإشادة بتقارير هيومان رايتس واتش، أو منظمة العفو الدولية، أو غيرها، فيما يتعلق بالممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.
إن لم تستح، وكانت لديك السطوة السياسية والعسكرية والدينية، فافعل وقل ما شئت. قاعدة ذهبية لا ينفك المستبدون عن احترامها. ولكن، السؤال الأشد إيلاماً، ويمكن أن يُعتبر طرحه بمثابة اللعب بالنار وفيها، هو: ألا تنطبق هذه القاعدة، أحياناً، على قوى معارضةٍ سياسيةٍ أو مسلحةٍ توجد في المشهد السياسي أو العسكري القائم والملتهب في المنطقة العربية؟
هل تُبرّر "الشرعية" الثورية انتهاكات بعضهم، ممن يتحدث باسمها وينتهك عرضها، حقوق الناس وحيواتهم وثقافتهم؟ هل يوجد مُبرّر أخلاقي واحد يسمح لمن يملك السلاح أن يتجبّر ويتفرعن على المدنيين، ويسلبهم حريتهم وكرامتهم، وهو الذي ادعى، يوماً، بأنه تمطى هذا السلاح للدفاع عنها والثأر لها؟ هل تسمح كل شرائع الأرض والسماء بقتل المدنيين أو حتى العسكريين في الأسر؟ هل يوجد مبرر استراتيجي، أو وطني، للتحصّن في مواقع أثرية تملّكتها أجيال سابقة منذ آلاف السنين، وأورثتها لأجيال لاحقة، ظنت أنها ستُعنى بها إلى آلاف سنين آتية؟ بالطبع، سيخرج من يقول، وقد قال، إن البشر أهم من الحجر. وهذا لا غبار عليه، على الرغم من شاعريته. ولكن، الذكاء أيضاً أهم من الغباء. وفقدان الحجر والبشر لا يمكن أن يكون إلا تجسيداً لفقدان الاستراتيجية العسكرية والمرجعية السياسية في أحسن الأحوال. وفي حالات أخرى، أسوأ قليلاً، فهو يُترجم حقداً تاريخياً تجاه النسيج المديني، ترعرع في ظل ثقافة الحزب الواحد والقول الواحد والمرجع الواحد، كما دعمته عقود من التصحير الثقافي والقمع السياسي، وتأسيس البُنى المؤسسة للأحقاد والكراهية في صفوف "المواطنين"، بطبقاتهم وطوائفهم ومذاهبهم وإثنياتهم ومناطقهم، إلى آخره من مكونات التفسخ المجتمعي وفقدان الانتماء إلى مجموع الوطن.
تقصف جهات مسلحة في سورية، صار من الصعب، أخلاقياً وعملياً، تسميتها ثورية، مراكز مدن تحت سيطرة القوات الموالية. وهي تقصف المدنيين وتعرف ذلك، وهي تفتخر، في بعض بياناتها، بأنها قامت بتفجير في حي سكني، وحتى أمام مدرسة. عشرات الضحايا دفعوا ثمن هذه الرعونة السياسية، في أحسن تقدير، أو فلنقل، وبوضوح، إنهم دفعوا ثمن هذا الحقد المبني على الجهل وفقدان المرجعية السياسية، أو جُبن هذه المرجعية أمام قوة أمراء الحرب المتكاثرين كالطحالب في مستنقع الركود الفكري وتكلّس العمل السياسي وفشل القيادة العسكرية.
وعندما تتصدى المؤسسات الحقوقية الدولية لمثل هذه الانتهاكات، وتُدينها، تتبنّى ردود فعل بعض هذه القوى المسلحة، التي اغتصبت جزءاً من الحراك المدني والعسكري الوطني، لغة الأنظمة المستبدة نفسها لإدانة هذه المنظمات، والإشارة إلى "عمالتها"، وإلى سيطرة "الصهيونية/ الصليبية العالمية" على مقرريها، وإلى إغفالها الإشارة إلى انتهاكات الطرف الآخر.
تستند الشرعية الثورية، أساساً، إلى شرعية وطنية وأخلاقية، لا مكان فيها لكره الآخر وقتل الآخر والتمثيل بالآخر. إن لم تلتزم القوى الحاكمة بالقيم الوطنية والأخلاقية، فهذا من شيمها التي عملت عليها، وصرفت الغالي والرخيص من أجلها. أما ألا تلتزم بها القوى التي ادعت يوماً أنها ستدافع عن وطن ومواطن، فهي الطامة الكبرى. الأكثر إيلاماً، هو موقف بعض القيادات السياسية المُمالئ أو المُحابي أو المُتحاشي. ولن ينتصر أي حَراكٍ وطنيٍ، يخشى قادته، أو من تبوأ قيادته، من قول الحق ومواجهة الباطل.