استعادة أبو جهاد... تهديد "التشبيك" لأميركا وإسرائيل

29 ابريل 2018
أبوجهاد وأبوعمار خلال حصار طرابلس في 1983 (روجر فوليت/Getty)
+ الخط -

كان ذلك في عام 1985، وكنت في مهمة صحافية في واشنطن حين باغتني مسؤول في الخارجية الأميركية بقوله "قد أخطأنا في تقدير وفهم خليل الوزير (أبو جهاد)، فقد تبين لنا أن هذا الرجل أخطر مما كنا نظن، ونعتقد أنه يحاول نسف أو تخريب أي تسوية ممكنة". كان المسؤول الذي أصبح أحد أهم المفاوضين الأميركيين في التسعينيات، يتحدث عن عملية الشاطئ التي خطط لها أبو جهاد في محاولة للوصول إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية، ولكن المقاتلين استشهدوا بعد وصولهم إلى شاطئ الوطن.
"فشل العملية" في الوصول إلى هدفها لم يلفت اهتمام المسؤول الأميركي المعروف بصلاته بالإسرائيليين، بقدر الفكرة نفسها، أي فكرة مواصلة المقاومة والأهم تقويض المحاولات الأميركية لدفع الفلسطينيين إلى الاستسلام، خاصة أن هدف الضربة يقع في عمق الكيان الصهيوني ولم يستهدف جيش الاحتلال في الضفة الغربية أو غزة، إذ إن أبو جهاد لم يستطع في أي يوم أو لحظة منذ تهجيره وعائلته من مدينة الرملة، إلا أن يرى فلسطين واحدة موحدة وغير مجزأة باحتلال أو توطين.
أوردت القصة في المقدمة لأنه حين أنظر إلى الوراء، وخاصة إلى شراسة ردة الفعل الإسرائيلية على عملية الشاطئ، أدرك أنه بعد هذه العملية لم يعد قيام إسرائيل باغتيال أبو جهاد مجرد احتمال، بل بات مسألة وقت. كنت أعي أن المسؤول الأميركي كان يعرف أنني سوف أنقل الكلام إلى أبو جهاد، فقد كان يعرف قربي من القائد الفلسطيني، لكنه، أي المسؤول، لم يكن يعرف أو كان يعرف، لا فرق، أن كلامه لا يهز أبو جهاد الذي اكتفى بكلمة واحدة لا غير هي "بسيطة"، إذ كانت من كلماته المعتادة، لأنه لم يقبل أن يعيش لحظة واحدة من التردد أمام أي تحد، إذ كان يؤمن أن "الحركة الدائمة" ضرورة لهزيمة اليأس، أما الجمود والشلل فيزرع الهزيمة واليأس.
لكنه أيضاً كما الجميع في تلك المرحلة يعي الخطر، خاصة بعد القصف الإسرائيلي في عام 1984 مقر الشهيد ياسر عرفات في حمام الشط في تونس، الذي كان بحد ذاته رسالة إلى الجميع، بعد غزو لبنان في عام 1982 وإخراج المقاومة بعيداً عن خط المواجهة مع إسرائيل، إذ كانت واشنطن تردد أنها كانت نهاية منظمة التحرير أو كما قال في حينها مستشار الأمن القومي السابق زيبغنيو بريجنسكي "وداعاً منظمة التحرير" Good Bye PLO.

رسائل الشاطئ
وصلت إحدى الرسائل التي أرادها أبو جهاد من العملية، وهي أن إبعاد المنظمة وحركة "فتح" عن بيروت وتشتيتها، لن يمنع المقاومة من الوصول إلى عمق العدو، لكن لم تكن عملية عبثية بهدف إنجاز رمزي لحظي، إذ إن في ذلك تقليلاً لتضحية الشهداء بل محاولة جادة للضرب في العمق، ولذا تكررت المحاولة في عام 1988. لكن من المهم فهم أن سعي أبو جهاد في التخطيط لعمليات عسكرية نوعية بعد مرحلة بيروت لم يكن كل الحكاية، لأن تركيزه كان على بناء "شبكة " اجتماعية وتنظيمية تشكل حولها، ومن خلالها، حاضنة شعبية للمقاومة داخل فلسطين وبالأخص في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967.
كان أبو جهاد يتواصل بشكل يومي مع "الداخل الفلسطيني" بكل الوسائل، كان ذلك يعني تبادل الرسائل مع القيادات، وغير القيادات، والتعرف، ولو عن بعد، إلى جيل جديد من الشباب والشابات الفلسطينيات المنخرطين في المواجهات مع الاحتلال. كانت الرسائل تصل على أي نوع ورق على شكل سجائر رقيقة جداً.
التفاصيل سواء كانت صغيرة أو كبيرة، كانت مهمة لدى أبو جهاد، إن كان تقييم الوضع السياسي أو التنظيمي أو النفسي. وكانت هناك تفاصيل أخرى بغاية الأهمية كان يحفظها أبو جهاد، وتلك كان يبدو أنه يحفرها في القلب، إذ كان يكتب في دفتره الصغير السميك، وكان لديه العشرات بل أعتقد المئات منها، عن كل تغيير في أي قرية أو مدينة فلسطينية، حتى الطرق التي كان أحيانا يرسمها، ويشرح لي عنها. فالإلمام بالتفاصيل كان يراه ضرورة لدعم نمو حركة شعبية مقاومة في الداخل، إذ أضحى الداخل خط المواجهة الأول لمعركة التحرير بعد مرحلة بيروت.
مع كل انتفاضة صغيرة، أي مواجهة كانت تشهدها الأراضي المحتلة في الثمانينيات، كان أبو جهاد، يكثف ويوسع اتصالاته، بالتعاون مع التنظيمات الأخرى، إذ كان واضحا أن انفجاراً أكبر على وشك الوقوع، أو كما كتب الباحث الفلسطيني جميل هلال في مجلة فلسطين الديمقراطية قبل شهرين من اندلاع الانتفاضة الأولى، "أن التراكم الكمي للعمل الفلسطيني الذي يرافقه تراكم نوعي في الوعي ينبئ بانتفاضة كبيرة". وكانت تلك اللحظة التي انتظرها أبو جهاد، وكان جاهزا لها، وكان على اتصال بقيادتها بعد أن ساهم بتشكيل القيادة الموحدة للانتفاضة.

القرب من أبو جهاد
لم أتعرف إلى أبو جهاد إلا بعد بيروت، وأخذت المبادرة كصحافية في بداية مسيرتي المهنية، إذ كنت في الجامعة منخرطة في العمل الطلابي منحازة إلى اليسار الفلسطيني والعربي، ومعجبة جدا بالمثقف اليساري الفتحاوي ماجد أبو شرار، وكنت أتمنى لقاءه، ولكن هالني استشهاده بعد أن أقدمت إسرائيل على اغتياله في روما عام 1981. خلال حصار بيروت شدتني تصريحات أبو جهاد التي كان يردّ بها على ادعاءات إسرائيل بمعرفة وتركيز، وسعيت إلى لقائه، لأتحول إلى فرد من العائلة.
كان يتقبل الاختلاف ويناقش ويستمع دون التقليل من الآراء الأخرى، وكان ذلك جزءاً من شخصيته القيادية. يؤمن بالشباب والأجيال القادمة، ولا يشعرك وهو يتحدث بأن الثورة بدأت معه أو مرتبطة بتاريخه وسيرته، بل هي امتداد لنضال الشعب الفلسطيني، والأهم لا تنتهي عنده وتستمر بعده.
عرفته أكثر خلال حصار مخيم البداوي بعد وصولي هناك على قارب مهربين من ميناء ليماسول إلى ميناء المنية "غير الشرعي" شمالي لبنان، ورحّب بي مجدداً وطلب من الجميع تسهيل مهمتي بالرغم من معرفته بأنني من حيث المضمون أؤيد معظم مطالب ما سمي بـ"انتفاضة فتح". في تلك الفترة كان أبو جهاد متمسكاً ببقاء المقاومة في لبنان وسلامة المخيمات بعد فجيعة مجزرة صبرا وشاتيلا، لكن ذلك لم يحصل، فحاصرت سورية مخيمي البداوي ونهر البارد، وكان الخروج الثاني من لبنان، والابتعاد عن قواعد العمل العسكري إلى تونس والجزائر.
ارتبطت عمليات فتح العسكرية باسم أبو جهاد وإخوانه من "القطاع الغربي". لكن ومنذ البداية كان له رؤية مهمة سياسية إعلامية هدفت في جوهرها إلى الربط بين الشعب الفلسطيني المشتت وتوحيده حول فكرة الحفاظ على الذاكرة والهوية في وجه المشروع الصهيوني لإبادة الذاكرة والهوية، وبالتالي التعبئة والتنظيم، سماها لاحقا بفكرة "التشبيك" وكانت البداية في مجلة "فلسطيننا" التي أسسها الشهيد ياسر عرفات، وأدارها أبو جهاد.
جعل أبو جهاد الذي كان حلمه أن يكون صحافياً، من "فلسطيننا" مساحة للفلسطينيين لرواية حكايتهم. وكان أحيانا يكتب هذه القصص الحقيقية بنفسه، إذ فهم مبكرا معنى الصراع حول الرواية التاريخية في إطار معركة التحرر من استعمار إحلالي، وكانت "فلسطيننا" أول تجربة لـ"التشبيك" من خلال وسيلة إعلامية لخلق وعي جمعي كشرط لتأسيس ومواصلة حركة التحرر. وهذا ما يفتقد له الفلسطينيون أكثر من أي وقت مضى، خاصة أن وسائل الإعلام الفلسطيني تغذي الانقسام.

المقاومتان
اسم أبو جهاد المرتبط بالكفاح المسلح، كان وبقي الأكثر التصاقاً بالانتفاضة الأولى "اللاعنفية"، أو بمعنى أدق "غير المسلحة"، وهو الرجل الذي درس وتأثر بالجنرال جياب وذهب إلى فيتنام للقائه، وزار الصين للاستفادة من تجربة ماوتسي تونغ في حرب العصابات، وكان دائم الزيارة والمكوث بشكل متكرر في بلد المليون شهيد التي تعلم من تجربتها في معركة تحررها من فرنسا وهناك التقى بالثائر الأرجنتيني تشي غيفارا للغرف من التجربة اللاتينية.
ما نتعلمه من مسيرته أن النضال الفلسطيني اتخذ أشكالاً متعددة وأن الجدل الدائر الآن، حول "المقاومة المسلحة" و"المقاومة اللاعنفية" بما فيها حركة المقاطعة على أساس أنها ثنائية يجب الاختيار بينها غير حقيقي، إذ يحمل في طياته تجريما لشكل من أشكال المقاومة، بينما الحقيقة وفي كل الثورات، وفي كل حركات التحرر بما فيها تجربة جنوب أفريقيا، خاض المناضلون من أجل الحرية كل أشكال المقاومة المسلحة وغير المسلحة وفقا لظروفهم، أصابوا وأخطأوا لكن لم يكن هناك حركة تحرر لم تخض كل أشكال المقاومة في سبيل تحررها من الاستعمار والعنصرية.

عودة للمسؤول الأميركي
المسؤول الأميركي الذي اكتشف خطر "أبو جهاد" في عام 1985، اقترب قليلا من فهم أبو جهاد، وإن من منظور معاد، إذ إن أبو جهاد لم يكن يعول على وهم الدور الأميركي أو مفاوضات أساسها فرض الهيمنة الإسرائيلية، كان يقول دائما إن الأساس هو "جعل الاحتلال يدفع ثمن احتلاله وهذا يتطلب تغيير الوضع على الأرض"، وبالتالي توسيع وتصعيد التواصل والتشبيك مع الداخل، وهذا ما جعله أكثر القياديين في الخارج التحاما بالانتفاضة فور انطلاقها عام 1988.
نجاح أبو جهاد بالتشبيك مع الشعب الفلسطيني هو ما جعله خطيراً، وعملية الاغتيال نفسها بتفاصيلها ورمزيتها سعت إلى إنهاء التشبيك، وانتهت بتفريغ 71 رصاصة في جسده، لأن قتل الفكر المقاوم يحتاج وابلاً من الرصاص في سعي لوأد المقاومة نفسها، وإلى فرض فصلٍ قسري لإنهاء تشبيك عضوي بين فلسطين الخارج وفلسطين الداخل تَطلبَ تمزيق اليد التي كانت تخط الرسالة الأخيرة إلى قيادة الانتفاضة.
أبو جهاد كان قائداً لكن قبل ذلك كله كان فلسطينياً، حلمه العودة إلى فلسطين، ففي حديثه شجون وآثار ألم دفين للطفل خليل الوزير الذي التصق بأمه يوم جاءت العصابات الصهيونية وبدأت رحلة التشرد الطويلة والمشي إلى مخيمات اللجوء في غزة التي تربى فيها وأحبها. قبل أن يكون قائداً كان أبو جهاد طفلاً تحول خوفه إلى غضب. هو الطفل خليل الذي كبر ليسلك كل السبل في طريق العودة إلى الرملة.

المساهمون