يعود النقاش والجدل من جديد حول المبادرة التشريعية لرئاسة الجمهورية التونسية، التي تحمل عنوان "مشروع قانون أساسي يتعلّق بإجراءات خاصة بالمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي"، المعروفة أكثر بمشروع "قانون المصالحة مع رجال الأعمال". وأصبحت أخيراً حديث الساعة وموضوع مختلف وسائل الإعلام التونسية، بعد أن صدر رأي "لجنة البندقية" التابعة للمجلس الأوروبي أخيراً، الذي أقرّ بأن هذا المشروع لا يتعارض مع ما جاء في الدستور، وفقاً لبيان رئاسة الجمهورية، التي أعربت عن استعدادها التامّ لقبول المقترحات والتعديلات على مشروع المصالحة، بناءً على توصيات "لجنة البندقية".
وينال الموضوع حيّزاً كبيراً من اهتمام التونسيين، وتضجّ وسائل الإعلام المحلية بنقاشات حول المشروع. وفي هذا الصدد، تقول رئيسة "هيئة الحقيقة والكرامة" سهام بن سدرين، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الهيئة قد تقبل بمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، في حال تمّ منح الضحايا حقوقهم، مع تقديم ضمانات لعدم تكرار الخروقات في مجال حقوق الإنسان".
وتوضح أن "لجنة البندقية اعتبرت في تقريرها حول الاستشارة المتعلقة بمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، أن المشروع لا يحقق الأهداف التي رسمها لنفسه في الديباجة، وأن تفاصيل البنود مغايرة تماماً عما هو مُخطط له، وطلبتُ بالتالي مراجعة المشروع برمته تقريباً". وتشير بن سدرين تحديداً إلى الفصل 12 في مشروع المصالحة، والذي "ينتزع صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة، بصورة مخالفة لجميع المعايير الدولية وللدستور التونسي".
لكن بن سدرين تستدرك قائلة، إن "الدستور لا يمنع استحداث هيئة أخرى، مع ضرورة توفّر جملة من الشروط"، مؤكدة في الوقت ذاته أن اللجنة المزمع تشكيلها وفقاً لنصّ مشروع القانون، لا تستجيب لمقتضيات الدستور، لسبب عدم توفّر شرط الاستقلالية".
اقرأ أيضاً: تونس: إيقاف محامين عن العمل بسبب "ظهورهم الإعلامي المتكرر"
ويكشف موقف بن سدرين أن أصبح رأي "لجنة البندقية" يمثّل في حدّ ذاته نقطة اختلاف، بين ثلاثة أطراف، وهي رئاسة الجمهورية و"هيئة الحقيقة والكرامة"، ورجال القانون، ومكوّنات المجتمع المدني العاملة في مجال العدالة الانتقالية.
في هذا السياق، يؤكّد رئيس "الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية" كمال الغربي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنّ "رأي لجنة البندقية لم يختلف عن موقف المجتمع المدني، المعارض لمضمون مشروع القانون المقترح من طرف رئاسة الجمهورية، بل يشدد على أن اعتماد هذا المشروع بمحتوياته، سينسف العدالة الانتقالية من أصلها".
ويضيف "يدعو هذا من جديد إلى تقديم مقترح للقيام بورشة وطنية، حول كيفية التسريع بتنفيذ استحقاقات العدالة الانتقالية بما فيها الجرائم المالية والاقتصادية في المدّة المتبقية لهيئة الحقيقة والكرامة. وذلك بإسناد المهمّة إلى لجنة التحكيم والمصالحة بعد توسيع عضويتها إلى قضاة وخبراء وممثلين عن الدولة، وإعطاء آجال بسنة للحسم في الملفات المفتوحة، وفق دليل الإجراءات المصادق عليه من طرف هيئة الحقيقة والكرامة، وبالتالي لسنا في حاجة إلى لجنة موازية للمؤسسات القائمة".
من جهته، يرى أستاذ قانون وخبير دولي في العدالة الانتقالية وحيد الفرشيشي، في تصريحاتٍ لـ"العربي الجديد"، أنّ "ما يمكن استخلاصه من تقرير لجنة البندقية، هو أنه بات ضرورياً إعادة المشروع برمته، فالحل يكمن في إصدار قانون تنقيحي لإحداث لجنة متخصصة داخل هيئة الحقيقة وتعمل بصفة مستقلة عنها".
ويتابع قائلاً إنّ "تقرير لجنة البندقية أجاب عن خمس نقاط فقط، من مشروع المصالحة الاقتصادية والمالية، والتي مثلت موضوع الاستشارة، التي تقدمت بها هيئة الحقيقة والكرامة، في حين لم يتم التطرق إلى المواضيع المتعلقة بالموظفين العموميين أو جرائم الصرف".
في هذا الصدد، تبيّن أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي، أن "تقرير لجنة البندقية يرى بأن مسار العدالة الانتقالية لا يمكن أن يكون ناجحاً، إلا إذا كان محلّ توافق بين جميع الأطراف، فضلاً عن المجتمع المدني، وأن تكون الهيئات الدستورية الموجودة مستقلة ونزيهة وفوق كل الشبهات".
وتعتبر أن "لجنة البندقية قامت بلفت انتباه كلا الطرفين، أي رئاسة الجمهورية وهيئة الحقيقة والكرامة، إلى ضرورة استقلالية ونزاهة هيئة الحقيقة والكرامة وهيئة المصالحة، لأنه شرط نجاح مسار العدالة الانتقالية". يُذكر أنّ لجنة البندقية قد أكّدت في تقريرها أنّ الفصل 12 من مشروع "قانون المصالحة الاقتصادية والمالية"، قد اعتبر "مُخلاً بمبدأ السلامة القانونية، ويتعارض مع الفصل 148 من الدستور، لأن الفصل سيحوّل كل الملفات والقضايا المتعلقة بالبعد الاقتصادي والمالي من هيئة الحقيقة والكرامة، إلى لجنة المصالحة، التي سيحددها مشروع القانون المقترح. بالتالي سيلغي كل الفصول الواردة في الهيئة المتعلقة بالجانب المالي والاقتصادي ويحدّ من أعمال هيئة الحقيقة والكرامة. وخلصت لجنة البندقية إلى أن مشروع قانون المصالحة يجب أن يراجع مدى التعاون والتفاعل بين جميع الأطراف، خصوصاً المجتمع المدني وكذلك هيئة الحقيقة والكرامة.
اقرأ أيضاً: تونس .. الوحدة الوطنية في وجه الديمقراطية