يتفاقم الغضب الشعبي في مدن جنوبي العراق وتحديداً في البصرة، أغنى مدن البلاد، جرّاء استمرار المليشيات المسلحة باستهداف الناشطين في الحراك الشعبي بالقتل أو الاختطاف، من دون أن تتمكن قوات الأمن حتى الآن من تقديم متهم واحد في تلك العمليات طوال الأسابيع والأشهر الماضية.
وشهدت وتيرة الاحتجاجات الليلية تصاعداً ملحوظاً خلال اليومين الماضيين، للمطالبة بتوفير فرص العمل والخدمات وإنهاء سطوة نفوذ الأحزاب الدينية، ولا سيما المقربة والمدعومة من إيران، وسط مخاوف من تصاعد ظاهرة استهداف الناشطين، بعد اغتيال الناشط تحسين أسامة الشحماني بأكثر من 20 رصاصة أدت إلى مقتله في الحال، واستهداف ناشطين آخرين، نجا اثنان منهم بأعجوبة، بينما ما زال ثالث مجهول المكان، بعد اختطافه من وسط المدينة قبل يومين.
ولم تهدأ البصرة على صعيد استهداف الناشطين عقب اغتيال الناشط الشحماني، إذ تعرض ناشطون آخرون، هما لوديا ريمون وعباس صبحي، لمحاولة اغتيال نقلا على أثرها إلى المستشفى في حالة خطرة، بحسب وسائل إعلام محلية.
كما اختفى الناشط وعازف الغيتار من البصرة حسين العربي، بطريقة لا تختلف عن الطرق التي اختفى فيها كثيرٌ من الناشطين المؤثرين في الاحتجاجات.
محاولة "ترقيعية"
على أثر ذلك، أعفى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي رئيس جهاز الأمن الوطني في محافظة البصرة من مهامه، ويعد هذا المسؤول الثاني الذي يقيله الكاظمي خلال ساعات، بعد إقالة قائد الشرطة الفريق رشيد فليح من منصبه وتكليف اللواء عباس ناجي بدلاً منه، لتتضح أكثر القرارات الأمنية المتخبطة، بحسب مسؤولين، ولا سيما أن القادة الذين أقالهم رئيس الحكومة العراقية، يطالب المحتجون بمحاسبتهم لتورطهم بسلسلة من الجرائم التي استهدفت الحراك الشعبي، وهو ما عبر عنه ناشطون بأن إجراء الكاظمي ليس أكثر من محاولة "ترقيعية" ضمن ملف محاسبة قتلة المتظاهرين.
وتخشى الأحزاب العراقية والمليشيات المسلحة من تطور الاحتجاجات في البصرة وتعاظمها إلى الحد الذي يصعب السيطرة عليه، وتكرار سيناريو الأعوام السابقة، وتحديداً الاحتجاجات التي انطلقت من البصرة وتمددت إلى عموم مدن البلاد في يوليو/ تموز 2018، لا سيما أن البصرة تمثل مركز المصالح المالية والتجارية للأحزاب والمليشيات المسلحة المختلفة في العراق.
تخشى الأحزاب العراقية والميليشيات المسلحة من تطور الاحتجاجات في البصرة وتعاظمها إلى الحد الذي يصعب السيطرة عليها
في السياق، قال علي سامي، وهو أحد أبرز المتظاهرين منذ سنوات في المدينة، إن "اغتيال الناشط تحسين أسامة سبّب موجة غضب شعبي في المحافظة، ودعا المتظاهرون إلى التصعيد والهجوم على بعض منازل المسؤولين المحليين وبضمنهم المحافظ أسعد العيداني".
وأضاف سامي لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة تتحمل مسؤولية قتل واختطاف المحتجين، إذ لا توجد أي جهة تتحمل هذه المسؤولية غير الحكومة ورئيسها مصطفى الكاظمي، الذي يظن أن إقالة بعض المسؤولين الأمنيين تعني انتهاء الأزمة، مع العلم أن المتظاهرين يطالبون بمحاسبة هؤلاء القادة ومحاكمتهم بأقسى العقوبات، كونهم تعاملوا مع الملفات الأمنية بتحزبٍ واضح ومن دون اللجوء إلى القانون وحماية العراقيين".
وأوضح أن "المتظاهرين عقدوا أكثر من اجتماع خلال اليومين الماضيين من أجل تثبيت سلسلة من الإجراءات المستقبلية في التعاطي مع السلطات، وقد اتفقوا على العودة مرة أخرى إلى الشارع واللجوء إلى التصعيد مرة أخرى، مع فضح المسؤولين والمليشيات المتهمة بقتل المتظاهرين".
وحذّرت مفوضية حقوق الإنسان العراقية، في وقتٍ سابق، من عودة ظاهرة اغتيال الناشطين المدنيين في العراق، وقالت في بيان إنها "تؤكد تحذيراتها السابقة من عودة ظاهرة اغتيال الناشطين، والتي يتشير إلى ضعف في الأجهزة الاستخبارية ونقص في المعلومة الأمنية، بعد تسجيل اغتيال الناشط المدني تحسين أسامة في محافظة البصرة".
وأضافت المفوضية أن "عدم الكشف عن الكثير من الاغتيالات السابقة، ومنها جريمة اغتيال الخبير الأمني هشام الهاشمي، شجّع عصابات تكميم الأفواه وحرية الرأي على استئناف جرائمهم"، محملة الحكومة والأجهزة الأمنية "مسؤولية الالتزام بضمان أمن المواطنين بشكل عام، والناشطين المدنيين على وجه الخصوص".
خطر محدق بالمتظاهرين
من جهته، أشار عضو تنسيقية تظاهرات البصرة علي الوائلي إلى أن "الخطر يحدق بالمتظاهرين في البصرة، ولا توجد قوات نظامية قادرة على ضبط الأمن في المدينة، لا سيما أن غالبية القتلة من جهات مدعومة من أحزاب أو لها علاقة بأجهزة أمنية، ويحملون هويات تجيز لهم حمل السلاح، كما أنهم يستخدمون عجلات وأدوات الدولة في التنقل وتنفيذ الجرائم".
وأكد الوائلي لـ"العربي الجديد" أن "أحزابا ومليشيات تخشى كثيراً من تظاهرات البصرة، كونها المحافظة الأغنى، وتمتلك مصالح مالية كبيرة فيها، ولذلك تعمل على تهدئة الأوضاع عبر الترهيب وقتل الناشطين البارزين، وهي طريقة لم تثبت نجاحها طيلة الأشهر الماضية".
وتابع أنه على "تواصل مع بعض الضباط المتعاطفين مع الحراك الشعبي في البصرة وقد أكدوا له، في أكثر من مرة، أن المليشيات المرتبطة بإيران هي المتهمة بقتل الناشطين، والعناصر الذين ينفذون عملات الاغتيال ليسوا أكثر من أدوات تستجيب لأوامر من سياسيين ورجال دين، بحجة محاربة المد العلماني".
وأوضح الناشط العراقي أن "المصادر الأمنية تؤكد أن من السهل العثور على القتلة ولكن من الصعب الإعلان عن هوياتهم ومحاسبتهم، لأن القرار الأمني ضعيف بالنظر إلى مدى تأثير الأحزاب على القيادة الأمنية، لذلك يعمل مصطفى الكاظمي على تجفيف النفوذ الحزبي والفصائلي في المؤسسات الأمنية بالبصرة تدريجياً".
قوة تواجه قوة الدولة
من جانبه، رأى المحلل السياسي والباحث عبد الله الركابي أن "الجهة التي تقف خلف قتل المتظاهرين والناشطين، سواء في البصرة أو بغداد أو أي مدينة أخرى، لا تشعر بالتهديد الحكومي أو تخشى الملاحقة القانونية، وذلك لأنها تحولت لقوة تواجه قوة الدولة، وجرّاء ذلك يستمر القاتل بالقتل، ولا تتراجع الجهات التي تختلف مع المحتجين عن الاستمرار بجرائمها".
وأكد الركابي لـ"العربي الجديد" أن "رد المحتجين، خلال اليومين الماضيين، على حادثة اغتيال الناشط تحسين أسامة كان عنيفاً، إذ استخدم المحتجون قنابل "مولوتوف" بكثرة، كما أنهم لجأوا إلى حرق عجلات القوات الأمنية واستخدموا رمي الحجارة بعنف تجاه القوات الأمنية، وهذا الغضب قد ينذر بتبدل أساليب المحتجين في العراق".
تعد البصرة أغنى مدن البلاد، إذ تتركز فيها موارد النفط والغاز، لكنها رغم ذلك تعاني من تفاقم البطالة والفقر وترد واضح في الخدمات
وتعد البصرة أغنى مدن البلاد، إذ تتركز فيها موارد النفط والغاز، لكنها رغم ذلك تعاني من تفاقم البطالة والفقر وترد واضح في الخدمات، واتساع نطاق الجريمة المنظمة، وتغول المليشيات المسلحة التي تتورط بعمليات تهريب النفط والمخدرات.