اسكتلندا.. درس الوحدة لدعاة الانفصال
تراجع هدير الموجة الانفصالية التي كانت على وشك تهديد المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بأسره، بكسب اسكتلندا فرس الوحدة، وهزيمة أوابد الانفصال. ولئن شهد التاريخ الإنساني على أنّ مراحل تماسك الأمم تأتي تاليةً لمراحل التفكّك والصراع، فإنّ وحدة اسكتلندا مع الاتحاد البريطاني تجدّد الدماء، وتعيد تركيب عناصر الوحدة في سياق مختلف، وبواسطة قوى وحدوية ناظمة.
ولا يحسّ بفرحة الاسكتلنديين لفوزهم بقرار الوحدة إلّا من مرّ على عنق بلاده سيف الانفصال. وباتت هذه المفردة أيّاً ما ذُكرت، تثير في النفس شجوناً كثيرة بعد انفصال جنوب السودان عن حضن الوطن عام 2011. ولا يُدرك هذه المشاعر المختلطة، إلّا من كابد هذه التجربة ومرّ بها، حتى أضحى في الوسع رؤية انفصاليين بالسجيّة، يعتقدون في تقسيم البلد تحريراً واستقلالاً، وغيرهم وحدويون بالطبيعة لا يرون في الانفصال خيراً، ويغلّبون مصالح الأمّة ومشاعرها على مصلحة التيّار الواحد.
وهذه النزعة الانفصالية في بلد ديمقراطي تتحقق فيه نتيجة الاقتراع بنسبة 55% لصالح الوحدة مقابل 45% للانفصال، هي غير ما تحققت في انفصال جنوب السودان الذي جاء بنسبة 98% لصالح الانفصال. وذلك لأنّ حالة جنوب السودان تم بناؤها على ظاهرة السؤال عن الهوية، والتي كانت الإجابة عليها، في حدّ ذاتها، مشكلة تتفجر منها أزمات شتى. فقد بلغ الأمر حدّاً، زعزع عوامل التماسك للبناء السياسي ومزّق النسيج الاجتماعي، حتى أدى إلى تقويض أركان الدولة، وبتر جزء عزيز منها.
فلطالما غالب الوحدويون أشجانهم ودموعهم، عند الإعلان عن نتائج الاستفتاء على انفصال الجنوب في يناير/كانون الثاني 2011، من دون أن تتغير وسائل المواجهة الحامية مع الانفصاليين الذين هللوا للحدث الجلل. واليوم، نرى الصورة المعكوسة بتهليل الوحدويين الاسكتلنديين بنتائج الاستفتاء لصالح الوحدة، مع اعتراف الانفصاليين بفشلهم في تحقيق ما سعوا إليه.
وبينما تتحقق رغبة أنصار الوحدة في الحالة الاسكتلندية بالاقتراع فقط، فقد فشلت من قبل جماعات ومنظمات سودانية، دعمت الوحدة الوطنية، من دون أن تحقق أملها. فقبل الانفصال، كان قد تم تكوين المنظمة السودانية لدعم الوحدة الوطنية، بعد أن بات الانفصال قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه. وتمثلت الفكرة في احتمالات الوصول إلى تسويةٍ تاريخيةٍ، تتأسس على ضوئها وحدة السودان، أرضاً وشعباً، عبر استفتاء تقرير المصير، والعمل من أجل وحدةٍ، تقوم على أسس جديدة، تحترم تعددية أهل السودان، وتنطلق منها إلى نظام حكم قائم على العدل والمساواة، وسيادة حكم القانون والحكم الراشد وحماية حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة. وكان أمل المنظمة أن يكون الانفصال مجرد ترتيباتٍ دستوريةٍ، تنشئ دولتين في وطن واحد، حكم عليه التاريخ والجغرافيا والعيش المشترك، عقوداً طويلة، أن يكون ما يجمع بين أهله أكثر مما يفرق، على الرغم مما شاب هذه العلاقة من توتر من آن إلى آخر.
والكيانات الواقعة داخل الإطار الإقليمي السوداني هي وحدات سياسية حازت الاستقلال في غلاف الدولة الواحدة، مخلّفاً عن التقسيم الاستعماري وتخطيطه الحدود، قبيل خروجه من السودان. وإن كانت الحدود بين السودان وجيرانه تم تحديدها، فيما قبل، نتيجة تنافس الإمبرياليات، فإنّ الحدود داخل إطار الدولة يحكمها تنافس الإدارات الداخلية والخاضعة لسيطرتها في حال الاستعمار، إلى أن صارت حدوداً قانونية دولية بعد الاستقلال. وهذه الحدود المصنوعة على الأرض هي التي حرّكت براكين الحدود المموهة والمتمثلة في الإثنيات والقبليات واللغات. ونسبة لضعف تجانس الكيانات والوحدات السياسية وانعدام الموهبة في إيجاد الوحدة من رحم التنوع، فذلك أضعف وحدة الجنوب مع السودان، وزلزل أواصر تماسكه الوطني.
يمكننا أن نستشف من ذلك بعض الأفكار المسلّم بها، وتبنيها من دون تحريك ساكن، وهي بقاء جنوب السودان هوية إقليمية وليست قومية، فاندماج الجنوب مع بقية أجزاء الوطن تحول عنه نمطية التفكير بأن الجنوب ملحق، وليس أصلاً أو جزءاً أساسياً. وفي المقابل، استمرارية النظرة إلى الطائفية كظاهرة بدائية، تعود بجذورها إلى شريعة الغاب، ناهضة من ركام الأزمنة، وكقوة سياسية بشعة، فرضها الاستعمار قديماً، والخارج حديثاً، ثم ابتعاث مفهوم الوحدة الوطنية، مطمحاً سامياً، يقف في وجه الأمراض الاجتماعية، وينبذ فكرة الانفصال. لا أحد يستطيع التعامي عن وجود الطائفية، فولاءاتها تشكل بالفعل محركاً رئيسياً لأسوأ أشكال العنف التي يشهدها البلد، والطوائف السودانية تمتلك موطناً طائفياً لكل منها.
يثبت ذلك كله أنّ أفكار الوحدة الحالمة لا تصمد في واقع مليء بالمشكلات والصعوبات والعوائق، والرغبة في الوحدة من دون أن يظللها سلام، ومن دون أن ترسخ أوتادها على أرض صلبة وخالية من التشققات في معنى الانتماء نفسه، لا تحول دون الإبقاء على جزء من الأرض، في حضن البلد الأم. وهذا ما سهّل على الوحدويين في اسكتلندا الإبقاء على وحدتهم، لتكون درساً لشقاق البشرية، وما يسّر على الانفصاليين في السودان أن يجدوا سوابق وشرعية تدعم الانفصال، ليُهدر الدمع على وحدةٍ لم تسعفنا دروس الماضي في إدراك ماهيتها، وقد لا يفعل درس اليوم.