بدأت الوحدات القتالية العراقية، فجر أمس الأربعاء، بالتحرك من مواقعها الحالية في مدينة الموصل، بعد استراحة لها لم تستمر أكثر من أسبوعين، باتجاه الغرب حيث مدينة تلعفر، ثاني كبرى مدن محافظة نينوى، والتي لا تزال تحت سيطرة تنظيم "داعش". لكن هذه الخطوة تأتي وسط خلافات بين رئيس الوزراء، حيدر العبادي، وقادة مليشيات "الحشد الشعبي"، بسبب خطة استبعدت دخول المليشيات إلى المدينة، واكتفت بمنحها دوراً على أطرافها وحصر مهمة الاقتحام بالقوات العراقية الحكومية.
وذكر مسؤولون عسكريون وقيادات سياسية في بغداد أن مشاركة "الحشد الشعبي" في معركة تلعفر ستحرم القوات العراقية من الغطاء الجوي لقوات "التحالف الدولي"، وهو أحد أهم الأسباب التي تدفع رئيس الحكومة للتمسك بقرار استبعاد المليشيات من خطة الاقتحام ومنحها دوراً على أطرافها فقط.
وقال الضابط في "الفرقة 16" بالجيش العراقي، العقيد حسين اللامي، إنه من غير المعلوم متى يبدأ الهجوم بسبب خلافات سياسية على ما يبدو، لكن "كجيش نحن مستعدون للهجوم خلال 3 أيام على المدينة"، وفق تأكيده. وأضاف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المدينة باتت مطوقة بشكل كامل، فجنوباً مطار المدينة الذي تسيطر عليه فصائل الحشد الشعبي، وشمالاً قرية عين الحصان، وغرباً بلدة ربيعة، ومن الشرق العداية". وتابع أن كل هذه المناطق هي "تحت سيطرة الجيش ومليشيات الحشد وقوات البشمركة، ويبعد أقرب محور تتواجد فيه القوات العراقية والمليشيات حالياً نحو 9 كيلومترات فقط عن تلعفر، وهو المحور الجنوبي"، بحسب تأكيده. ويتوقع أن تستغرق المعركة وقتاً أقصر بكثير من معركة الموصل. ويرجح مسؤولون عسكريون وخبراء أن تستغرق ما بين 40 يوماً إلى شهرين.
ومن المرجح أن تشارك بالمعركة المرتقبة قوات الجيش وجهاز مكافحة الإرهاب وقوات التدخل السريع، فضلاً عن الشرطة الاتحادية بقوات قوامها 27 ألف عنصر. ولم تحسم حتى الآن مشاركة "مليشيات الحشد"، إذ يرفض العبادي اقتحام المليشيات للمدينة التي تضم خليطاً من التركمان العراقيين السنّة والعرب السنة، والذين يقدر عددهم حالياً بنحو 50 ألف نسمة، بعدما فرّ أكثر من 60 بالمائة من سكان المدينة إلى خارجها.
وسبق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن هدد بالتدخل في معركة تلعفر في حال شاركت مليشيات "الحشد" بالمعركة، وذلك خوفاً من جرائم قتل وتطهير طائفي وعرقي تنفذها تلك المليشيات. لكن مليشيات "الحشد الشعبي" تستعد بكامل ثقلها للمعركة، على الرغم من استمرار رفض رئيس الوزراء العراقي مشاركتها فيها. وفي هذا السياق، عقد قادة "الحشد الشعبي"، أمس الأربعاء، اجتماعاً وصف بالطارئ لبحث الاستعدادات لمعركة تحرير تلعفر. وقال عضو بـ"التحالف الوطني" الحاكم، مقرب من "الحشد"، إن اجتماعاً وصف بالطارئ عقد في مقر المليشيات بوسط بغداد، وضم أغلب قادة الفصائل المنضوية ضمن "الحشد الشعبي". وأكد لـ"العربي الجديد"، أن الاجتماع جاء لمناقشة الاستعدادات اللازمة لخوض معركة تلعفر المرتقبة. وأضاف أن "المجتمعين حسموا أمرهم بخوض معركة تلعفر بغض النظر عن موافقة الحكومة العراقية من عدمها"، مشيرين إلى وجود محاولات لإقصائهم من المعركة.
وخيار المشاركة في هذه المعركة لن يكون، بالنسبة لـ"الحشد"، محل جدل مع الحكومة العراقية التي تصطدم بالموقف الإيراني المؤيد لتلك المشاركة، نظراً لما تشكله المدينة من أهمية كبيرة. وتلعفر تعتبر آخر حلقات النفوذ الإيراني في ما بات يعرف بطريق طهران - دمشق عبر الأراضي العراقية. كما أن إخضاع تلعفر لسيطرة المليشيات يعني تحول المدينة لحديقة خلفية لمقاتلي حزب "العمال الكردستاني" الذين يتواجدون على بعد 43 كيلومتراً فقط من المدينة حيث جبال سنجار المجاورة.
وقال القيادي في مليشيات "بدر" المنضوية في "الحشد الشعبي"، محمد ناجي، إن فصائل من "الحشد" تحركت باتجاه قضاء تلعفر وفرضت طوقاً عسكرياً عليه من جميع الجهات، تمهيداً لبدء المعركة، مؤكداً في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن مليشيات "الحشد" مصممة على المشاركة في هذه المعركة. وأشار إلى أن الموعد الرسمي لانطلاقها لم يحدد بعد على الرغم من إعلان العبادي أخيراً، أن الوجهة المقبلة ستكون تلعفر.
وأكدت مصادر سياسية مطلعة أن فصائل "الحشد" التي تحركت نحو تلعفر، لم تأخذ أوامر للتحرك من العبادي بصفته المشرف على هذه المليشيات، ما دفعه إلى المسارعة لإعلان خطة تحرير تلعفر من دون تحديد موعدها. وقال عضو في البرلمان العراقي لـ"العربي الجديد"، إنه حتى الآن لم تحسم مشكلة مشاركة "الحشد" باقتحام المدينة. وأكد أن هناك إصراراً إيرانياً على مشاركتها، وبالتالي يتعلق الأمر فعلياً بدور ومشاركة إيران، مشيراً إلى أنه يتوقع أن يرضخ العبادي أخيراً للإملاءات الإيرانية، أو يتنازل بشكل جزئي، كأن يسمح لعناصر "الحشد" باقتحام قرى تلعفر وليس مركز المدينة، في محاولة للتوفيق بين المعسكرين الإيراني والأميركي، وفق قول النائب العراقي.
وفي السياق، يؤكد القيادي في مليشيات "بدر"، محمد ناجي، أن أهمية معركة تلعفر بالنسبة لـ"الحشد الشعبي" تكمن في ملاحقة عناصر "داعش" حتى الحدود السورية، مشيراً إلى أن الدخول إلى الأراضي السورية أمر غير مستبعد، لكن ذلك لن يحصل من دون موافقة الحكومة العراقية، وفق تعبيره.
وتنبع أهمية تلعفر، إضافةً إلى موقعها الجغرافي، من تركيبتها السكانية التي يشكل التركمان السنة غالبية فيها مع وجود أعداد أخرى من التركمان والشبك الشيعة، ما جعلها ميداناً للصراع الطائفي منذ عام 2005. وحذر النائب عن محافظة نينوى، محمد نوري العبد ربه، من خطورة ما تسعى إليه بعض الجهات السياسية العراقية التي تمتلك أذرعاً مسلحة، لرسم مخططات جديدة في المناطق التي احتلها "داعش" بعد مرحلة التحرير. وأشار في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن ما يجري في تلعفر ليس بعيداً عما يجري في الموصل أيضاً، حيث تحاول جهات عديدة بسط نفوذها على أكبر مساحة ممكنة من المدينة المنكوبة.
وحذّر النائب عن "التحالف الوطني"، رشيد الياسري، من "خطورة تأخير تحرير تلعفر". وقال في بيان صحافي، إن "منطقة تلعفر منطقة استراتيجية، وإن عدم تحريرها سيمنح داعش الوقت الكافي لإعادة ترتيب أوراقه وتنظيم صفوفه، لشن هجمات على المناطق المجاورة المحرّرة فضلاً عن الموصل".
وتلعفر أو مدينة الخير، بحسب التسميات المتعددة للمدينة التي حافظت على تنوعها القومي منذ قرون طويلة، يبلغ عدد سكانها نحو 300 ألف نسمة وتقطنها القوميتان العربية والتركمانية وأقلية كردية. وأضفى هذا التنوع كماً كبيراً من الثقافات والعادات الاجتماعية التي امتزجت وشكلت علامة مميزة للمدينة العراقية. ويتكلم غالبية سكانها اللغة التركمانية وبلهجة خاصة إلى جانب العربية، اللغة الرسمية في المدينة. وتبلغ مساحتها 4453 كيلومتراً مربعاً، وتقع على بعد 38 كيلومتراً من الحدود التركية، و60 كيلومتراً من الحدود السورية، وتبعد عن بغداد حوالي 450 كيلومتراً شمالاً. ويعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد وحكمها الرومان ثم الفرس قبل أن تفتح بزمن الخليفة عمر ابن الخطاب. وتشتهر تلعفر بقلعتها الأثرية (قلعة تلعفر) التي بنيت في العهد الآشوري، وتقع القلعة في منتصف المدينة على عين ماء تلعفر. كما تضم 41 حياً سكنياً مختلفاً. وعرفت بتعايشها السلمي حتى بدء الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003، واندلاع الفتنة الطائفية والقومية في العراق.