08 يوليو 2019
الأب والابن والكلمات
كان يدوّن ذكرياتٍ طائرةً ومشوّشة، يستعيد أحلام يقظةٍ هاجعةٍ في الظل، يستجمع قواه لدخول قلعةٍ متداعية، ولكنها لا تزال مسيّجة بأشباحها، عندما قال له والده إنه "يكتب".
سأله: ماذا تكتب؟
فقال: مذكّراتي!
في تلك اللحظة التي أخبره فيها والده بأنه يكتب "مذكراته"، وهما يحتسيان شاياً حلواً ومُنعْنَعاً على شرفة بيتهم قبل أذان صلاة المغرب الذي ينبعث من عشرين مكبرٍ للصوت دفعة واحدة، استدعت ذاكرته، بلؤم انتقامي، حادثة واحدة بعينها من بين ركام الذكريات.
كانوا يسكنون في معسكر الزرقاء في بيت من غرفتين طينيتين. واحدة من هاتين الغرفتين تؤدي، نهارا، وظائف عدة، بعد رفع الفراش على المطوى الخشبي: مضافة للضيوف القادمين من خارج المعسكر، غرفة جلوس عائلية لساعتين أمام التلفزيون حديث العهد،غرفة مطالعة لدروسهم الكئيبة. على الطاولة الوحيدة في بيتهم كان يضع كتبه المدرسية أمامه، ويبدو لمن يدخل الغرفة منكبَّا على دروسه، بينما كان يكتب، في حال من الخفَّة والهيام، "قصيدة حبّ". دخل والده في تلك العصرية الخريفية، فجأة، إلى الغرفة، ليتأكد أن ابنه يطالع كتبه المدرسية وليس رواية، مثلما رآه يفعل أكثر من مرة، أو ليس منشغلا بشيء آخر عن دروسه التي أقضَّ مضجعه تقصيرُه الفادح فيها. سريعا حاول الابن أن يدسّ الورقة التي كتب عليها سطورا محمومةً من وجع قلبٍ مراهقٍ في كتابه المدرسي، لكن اليد الكبيرة كانت أسرع. أخذ والده الورقة التي فضحت مضمونها محاولته الفاشلة في إخفائها، وقرأها. اربدّ وجه والده وقال: إنتا اللي كتبت هاذي السخافة؟ فرد الاين: أنا نقلتها من كتابٍ لعرار. اختياره السريع اسم عرار لم يكن مصادفة، فهو الشاعر الوحيد الذي يعرفه، ربما، والده. إنه الشاعر الأكثر شهرة في بلاده، وبعض قصائده، إلى ذلك، مقرّرة في المنهاج المدرسي. لم تنطل الكذبة على والده، فمزّق الورقة إربا ثم قال: إصحك بعد تكتب هاذي السخافات، وانتبه لدروسك أحسن.
لم يعرف والده عندما أخبره، وهما يحتسيان شايا حلوا ومُنعْنعاً على برندة بيتهم، أنه "يكتب"، ما دار، تلك اللحظة، في ذهن ابنه. لم يعرف أن ذاكرته استدعت، كما لو أنها تنتقم، تلك الذكرى التي ربما لا يتذكرها والده أصلا. كان والده ينتظر منه، على الأغلب، أن يقول شيئا، فقال، كابتا انفعالا سريعا اعتمل في داخله، إنه أمر جيد أن يكتب. فقال الأب، كأنه يعتذر عن عملٍ يتطفل عليه بحضور ابنه "الكاتب الحقيقي": يعني ما هي كتابة كتابة، بس مشان تعرفوا بعض الأشياء!
على نحو خاطف، مرَّت، في ذهنه، ذكرى تمزيق تلك "القصيدة"، وهو يسمع أباه، بعد أكثر من ثلاثة عقود على الحادثة، يقول له إنه "يكتب"، فلم يمكث إغراء الانتقام المتراقص الذي عرضته عليه ذاكرته، سوى هنيهة، راح بعدها يفكِّر في علاقته هو بابنته وابنه. فكَّر، أيضا، بدورة الزمن، وعملية التأثر والتأثير بين أب عسكري صارم وابن انطبعت طفولته ومراهقته بعصيان كامل لمشيئة أبيه.
تراءى له الزمن، عندما بدأ يقرأ أوراق والده، دائريا، يبدأ من نقطةٍ ثم يعود إليها. إنه يفهم أن يتقمص الأبناء شخوص آبائهم، حتى وهم يظنون، كل الظن، أنهم يتمرّدون عليهم، ولكن ما أدهشه، حقا، أن يعود الآباء، بعد مشارفة دورة العمر على الاكتمال، إلى تمثّل أبنائهم.. إن لم يكن إلى تقليدهم.
فما الذي دفع والده إلى استخدام القلم الذي لا يستخدمه، عادة، إلاّ لتدوين الرسائل، أو مصاريف البيت والفواتير، مهما قلَّ شأنها، في دقةٍ وتنظيم عجيبين.. تساءل ما الذي جعل والده يستخدم القلم في منحىً مختلف بالكامل، هذه المرة، سوى أن أحد أبنائه، بل ابنه البكر، كابوس حياته حينا من الدهر، قد صار كاتبا؟
أثَّر فيه عميقا قول والده إنه "يكتب" شيئا عن حياته. قال "يكتب"، وهذا يعني أن عمله يصدر من منطقة وعيٍ لفعل الكتابة يتجاوز الرسائل المسهبة، المنمقة، ذات الخط الجميل التي كان يرسلها إلى أبنائه في مغترباتهم، ليخبرهم بتطوراتٍ غاية في التفصيل والجزئية، تحدث في البيت أو المحيط العائلي المباشر.
ذهب قلم والده، هذه المرّة، في انحرافةٍ حادّة عن عادته، إلى ما هو أبعد من الرسالة التي يستهلها دائما بالمقدّس: بسم الله الرحمن الرحيم.. ولدنا العزيز فلان.. وأبعد، بالتأكيد، من ضبط النفقات والفواتير في دفاتر تضم، على الأغلب، كل ما خرج من جيبته من نقود وما دخلها. أخيراً فكَّر الابن، في خجلٍ، أن الكلمات التي مزقها والده عندما ألقى القبض عليه وهو يدبج "قصيدة" غرامية، تستعيد، الآن، كرامتها المهدورة!
سأله: ماذا تكتب؟
فقال: مذكّراتي!
في تلك اللحظة التي أخبره فيها والده بأنه يكتب "مذكراته"، وهما يحتسيان شاياً حلواً ومُنعْنَعاً على شرفة بيتهم قبل أذان صلاة المغرب الذي ينبعث من عشرين مكبرٍ للصوت دفعة واحدة، استدعت ذاكرته، بلؤم انتقامي، حادثة واحدة بعينها من بين ركام الذكريات.
كانوا يسكنون في معسكر الزرقاء في بيت من غرفتين طينيتين. واحدة من هاتين الغرفتين تؤدي، نهارا، وظائف عدة، بعد رفع الفراش على المطوى الخشبي: مضافة للضيوف القادمين من خارج المعسكر، غرفة جلوس عائلية لساعتين أمام التلفزيون حديث العهد،غرفة مطالعة لدروسهم الكئيبة. على الطاولة الوحيدة في بيتهم كان يضع كتبه المدرسية أمامه، ويبدو لمن يدخل الغرفة منكبَّا على دروسه، بينما كان يكتب، في حال من الخفَّة والهيام، "قصيدة حبّ". دخل والده في تلك العصرية الخريفية، فجأة، إلى الغرفة، ليتأكد أن ابنه يطالع كتبه المدرسية وليس رواية، مثلما رآه يفعل أكثر من مرة، أو ليس منشغلا بشيء آخر عن دروسه التي أقضَّ مضجعه تقصيرُه الفادح فيها. سريعا حاول الابن أن يدسّ الورقة التي كتب عليها سطورا محمومةً من وجع قلبٍ مراهقٍ في كتابه المدرسي، لكن اليد الكبيرة كانت أسرع. أخذ والده الورقة التي فضحت مضمونها محاولته الفاشلة في إخفائها، وقرأها. اربدّ وجه والده وقال: إنتا اللي كتبت هاذي السخافة؟ فرد الاين: أنا نقلتها من كتابٍ لعرار. اختياره السريع اسم عرار لم يكن مصادفة، فهو الشاعر الوحيد الذي يعرفه، ربما، والده. إنه الشاعر الأكثر شهرة في بلاده، وبعض قصائده، إلى ذلك، مقرّرة في المنهاج المدرسي. لم تنطل الكذبة على والده، فمزّق الورقة إربا ثم قال: إصحك بعد تكتب هاذي السخافات، وانتبه لدروسك أحسن.
لم يعرف والده عندما أخبره، وهما يحتسيان شايا حلوا ومُنعْنعاً على برندة بيتهم، أنه "يكتب"، ما دار، تلك اللحظة، في ذهن ابنه. لم يعرف أن ذاكرته استدعت، كما لو أنها تنتقم، تلك الذكرى التي ربما لا يتذكرها والده أصلا. كان والده ينتظر منه، على الأغلب، أن يقول شيئا، فقال، كابتا انفعالا سريعا اعتمل في داخله، إنه أمر جيد أن يكتب. فقال الأب، كأنه يعتذر عن عملٍ يتطفل عليه بحضور ابنه "الكاتب الحقيقي": يعني ما هي كتابة كتابة، بس مشان تعرفوا بعض الأشياء!
على نحو خاطف، مرَّت، في ذهنه، ذكرى تمزيق تلك "القصيدة"، وهو يسمع أباه، بعد أكثر من ثلاثة عقود على الحادثة، يقول له إنه "يكتب"، فلم يمكث إغراء الانتقام المتراقص الذي عرضته عليه ذاكرته، سوى هنيهة، راح بعدها يفكِّر في علاقته هو بابنته وابنه. فكَّر، أيضا، بدورة الزمن، وعملية التأثر والتأثير بين أب عسكري صارم وابن انطبعت طفولته ومراهقته بعصيان كامل لمشيئة أبيه.
تراءى له الزمن، عندما بدأ يقرأ أوراق والده، دائريا، يبدأ من نقطةٍ ثم يعود إليها. إنه يفهم أن يتقمص الأبناء شخوص آبائهم، حتى وهم يظنون، كل الظن، أنهم يتمرّدون عليهم، ولكن ما أدهشه، حقا، أن يعود الآباء، بعد مشارفة دورة العمر على الاكتمال، إلى تمثّل أبنائهم.. إن لم يكن إلى تقليدهم.
فما الذي دفع والده إلى استخدام القلم الذي لا يستخدمه، عادة، إلاّ لتدوين الرسائل، أو مصاريف البيت والفواتير، مهما قلَّ شأنها، في دقةٍ وتنظيم عجيبين.. تساءل ما الذي جعل والده يستخدم القلم في منحىً مختلف بالكامل، هذه المرة، سوى أن أحد أبنائه، بل ابنه البكر، كابوس حياته حينا من الدهر، قد صار كاتبا؟
أثَّر فيه عميقا قول والده إنه "يكتب" شيئا عن حياته. قال "يكتب"، وهذا يعني أن عمله يصدر من منطقة وعيٍ لفعل الكتابة يتجاوز الرسائل المسهبة، المنمقة، ذات الخط الجميل التي كان يرسلها إلى أبنائه في مغترباتهم، ليخبرهم بتطوراتٍ غاية في التفصيل والجزئية، تحدث في البيت أو المحيط العائلي المباشر.
ذهب قلم والده، هذه المرّة، في انحرافةٍ حادّة عن عادته، إلى ما هو أبعد من الرسالة التي يستهلها دائما بالمقدّس: بسم الله الرحمن الرحيم.. ولدنا العزيز فلان.. وأبعد، بالتأكيد، من ضبط النفقات والفواتير في دفاتر تضم، على الأغلب، كل ما خرج من جيبته من نقود وما دخلها. أخيراً فكَّر الابن، في خجلٍ، أن الكلمات التي مزقها والده عندما ألقى القبض عليه وهو يدبج "قصيدة" غرامية، تستعيد، الآن، كرامتها المهدورة!