الأردن والرهان على السيسي
زيارة خاطفة قام بها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يوم الخميس الماضي، إلى عمّان، تخللها استقبال رسمي حميم لافت (مع استياء شعبي واضح)، حمل رسالة واضحة بالدعم المطلق من "مطبخ القرار" الأردني للرجل ولحقبته وسياساته الداخلية.
قبل ذلك بنحو عشرة أيام، حرص الملك عبد الله الثاني على زيارة القاهرة ولقاء السيسي، قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة، ويلتقي الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ولجاناً في الكونغرس ومراكز تفكير أميركية، وكانت إحدى المهمات الأساسية، إن لم تكن الأولى، للقاءات واشنطن تتمثل في دعم السيسي، وتسويقه في الأوساط الأميركية، والدفاع عن سياساته.
لمس الملك، بالضرورة، حجم الاختلاف حول السيسي في واشنطن، وأدرك أنّ هنالك تياراً عريضاً من السياسيين لا يستطيع أن يهضم ما يقوم به الرجل تجاه الخصوم، والانقلاب المفضوح على المسار الديمقراطي. وربما تكمن المفارقة أنّ صحيفة نيويورك تايمز صدّرت افتتاحيتها بالتزامن مع الزيارة الملكية، بهجوم قاسٍ على السيسي، غداة الحكم ببراءة الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، لتصف النظام الجديد بأنّه أكثر ديكتاتورية من مبارك نفسه، وأنّ هذا الحكم القضائي بمثابة "الفصل الأخير" في الربيع الديمقراطي المصري!
أمّا هدف زيارة السيسي إلى عمان فتتمثل، بالإضافة إلى التأكيد على التحالف بين الطرفين، في تلقي رأي الملك في نتائج الزيارة ورأي الأوساط الأميركية بما يحدث في مصر، وأخذ النصائح في كيفية التعامل مع المرحلة المقبلة.
ألهذه الدرجة تتبنّى عمّان السيسي ونظامه؟ الجواب: نعم، ليس فقط فيما بعد الانقلاب العسكري، بل قبل ذلك في التمهيد له والتنسيق معه، ضمن مربع الشركاء العرب، للإطاحة حكم "الإخوان المسلمين" وإيقاف قطار الثورات العربية، بل ويمكن لأيّ مراقب أن يلتقط بسهولة ذلك، عبر مقارنة واضحة بين سياسات الأردن تجاه حكم الرئيس محمد مرسي والأزمات التي تمّ افتعالها حينها على الغاز المصري والتلويح بورقة العمالة المصرية الوافدة وبين الطريقة الأبوية الرعائية الحميمة التي يتم التعامل بها مع السيسي. ويبدو الجواب عن السبب في هذا "الرهان الأردني" العميق على السيسي سهلاً وواضحاً، سواء عبر المشهد الإقليمي أو المحلي- الداخلي.
إقليمياً، الأردن شريك رئيس وفعّال، بل أحد مهندسي المعسكر العربي المحافظ في المنطقة، والذي يضم دولاً خليجية أخرى، كانت مهمته (هذا الحلف) حماية "الوضع الراهن"، وممانعة التغيير الديمقراطي، والوقوف في وجه "الإسلام السياسي"، وتحديداً الإخواني، والوقوف في وجه المحور الآخر (المفترض)، وهو التركي- القطري، الذي يدعم هذه التحولات وإدماج الإسلاميين في المنطقة.
في مرحلة سابقة، كانت أولوية المحور المحافظ (سابقاً اسمه الاعتدال) مواجهة ما كان يسمى "حلف الممانعة" (الإيراني- السوري- الإخواني). لكن، بعد التحولات الأخيرة في الربيع العربي، وانفضاض العلاقة بين "الإخوان" وإيران، أعاد المحافظون العرب ترتيب أولوياتهم، ليصبح مصدر التهديد الأول هو المعسكر التركي والإسلام السياسي، مقدماً على المشروع الإقليمي الإيراني نفسه!
داخلياً، يأتي اعتبار العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين بوصفه عاملاً مهماً يفسّر دعم الأردن السيسي، فالجماعة رفعت سقف خطابها في أوج الربيع العربي (2011-2013)، وراهنت على الحكم الإخواني في مصر وتونس، وانتظرت وضعاً مشابها في سورية، وتأزمت علاقتها بالملك ونظام الحكم إلى أقصى مدى، ووصلت الشكوك بين الطرفين إلى درجة غير مسبوقة، فجاء الرهان على السيسي ونجاحه لضرب طموح الإسلاميين الداخلي، وهم القوة المعارضة الأكثر حضوراً وانتشاراً ونفوذاً في الأوساط الشعبية، وللجم رهانهم على المتغيرات الإقليمية، وصولاً إلى إضعافهم وحصارهم، وتفتت قوتهم الشعبية والسياسية.
بقدر ما تبدو هذه العوامل واضحة في تفسير الرهان الأردني، بقدر ما أنّ هنالك متغيرات أخرى، تضفي طابعاً غامضاً معقّداً عليها! فعلى الرغم من الموقف الحادّ من "الإخوان"، وهو أمر لم يعد يخفيه الملك نفسه، إلاّ أنّ المعادلة الأردنية ليست كالخليجية، أو المصرية، فـ"الإخوان" تنظيم متجذّر في التاريخ والمجتمع، ولديه أبعاد أخرى ذات طابع اجتماعي، في مقدمتها أنّه الممثل الأبرز للأردنيين من أصول فلسطينية، ما يجعل من قرار حظره وإلغائه أمراً مستبعداً وغير عقلاني ولا واقعي. وفوق هذا وذاك، فإنّ البديل عن "الإخوان" هو التيار السلفي الجهادي الراديكالي الصاعد، والقضاء على "الإخوان" سيصب في مصلحة ذلك التيار، ما يعني تهديداً أمنياً داخلياً جديّاً.
من تعقيدات الرهان الأردني على السيسي، وهذا الأهم، أنّ هنالك تياراً شعبياً جارفاً، ليس بالضرورة إخوانياً، معارضاً لهذه التوجهات الخارجية بقوة، ما يجعل المسافة الفاصلة بين الرأي العام والسياسة الخارجية كبيرة وشاسعة وسافرة، تنعكس بدورها على أزمة الثقة المتنامية بين الدولة والمجتمع، وتدفع إلى شكوك كبيرة في الدعوى الرسمية بتبني الإصلاح السياسي، بينما تسير السياسات الداخلية والخارجية في الاتجاه المعاكس تماماً.
يضيف إلى ذلك محللون سياسيون أردنيون عاملاً، لا يقل أهمية عمّا سبق، ويتمثل في أنّ الخصوصية تتجاوز العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين إلى طبيعة السياسة الخارجية التي امتازت، على الدوام، بالاعتدال والتوسط والإمساك بأكثر من خيار دبلوماسي، والندية في التعامل مع الشركاء العرب الآخرين، ما شكّل تاريخياً وتقليدياً أحد سمات "القوة الناعمة" الدبلوماسية الأردنية، وجسّر الفجوة بين مواقف الشارع والدولة، وهو ما تفتقده، بوضوح، السياسات الخارجية الراهنة!