يتدفّق لاجئو سوريا إلى مخيمات لبنان، وينضمّون إلى إخوتهم الفلسطينيين لإحياء "النكبة" في مشهد عديم الرّحمة: من يواسي من؟ أين اللاجئ، ومن الجريح، ومن الأحقّ بالفجيعة؟
تأتي ذكرى النكبة والشعوب العربيّة مشتّتة، ومنهكة، ومصابة بالدّوار. تأتي رياح النكبة والعالم العربيّ مُستنزَف القوى، ومُستندٌ إلى جدار المساعدات الدّولية، ينتظر الضمّادات ممّن طعنوا ظهره قبل أكثر من ستّين سنة.
تأتي ذكرى النّكبة وجيوش العرب ومعدّاتهم الصدئة تحّركت أخيرًا، إنّما بالاتّجاه الخاطئ.
تأتي النكبة وتقسيماتنا السياسيّة والدينيّة والطائفيّة تنشطر وتتوالد كخلايا سرطانيّة تحت المجهر. تأتي ذكرى النكبة ونحن على المسرح، نعيد تمثيل فصولها الدمويّة، بإتقانٍ شديد، والعدوّ يصفّق مندهشًا، فقد كان أداؤنا مقنعًا للغاية.
تأتي ذكرى النّكبة ونحن داخل النكبة، نعيش تداعيات الحبكة الصهيونيّة: الخيانات الداخليّة، والأنظمة الشموليّة، والانشطارات الطائفيّة، والابتزاز الاقتصاديّ. لقد سار كلّ شيء كما كان مرتّبًا له، وربّما أفضل.
وتأتي الذكرى لتشيّع الشهداء بنفس القدر: ممن سقطوا في حرب 48، بنيران مُغتصِب الأرض، أو ميادين الحريّة في مصر واليمن وسوريا وتونس وليبيا والبحرين، بنيران مُغتصب السّلطة؛ ولتذكّر الشعوب العربيّة بأنّها تواجه مصيرها لوحدها أمام عدوّين مختلفين بمصلحة مشتركة: قهرُ هذه الشعوب وتردّيها. فلا ضامن لامتداد لعنة 48 سوى خيانة رموز النظام العربي: اللاجئ منهم، والمختبئ، والفارّ، والمقتول، والمتنقّل على كرسيّه المدولب. جميعهم -وبجدارة- كانوا صُنّاع النكبة المحلّيين، ومنعطفًا رئيسًا في مساراتها.
غير أنّه وكما تُصدر رياح النّكبة فحيحًا وهي تعبر البيوت المهجورة في قرى فلسطين، ومدن سوريا، وسطوح منازل الشّهداء في دول الرّبيع العربي، فهي تثيرُ شهيّة البراعم تحت الخراب؛ شهيّة الصّمود، والمقاومة، والنموّ من جديد. فالمُغتصِب لا ينام قريرًا وهو يدرك أنه قد ينجح في اقتلاع كل أشجار الزيتون لكن الأرض بدورها لن تتوقف عن المحاولة.
* كاتبة وأكاديمية من السعودية