في مدينة إسطنبول التركية تجارة بسيطة قوامها بسطة أو دكان صغير، يعمل فيها أكثر من نصف مليون أجنبي بعضهم تجار شنطة وبعضهم وسطاء. يجلب هؤلاء بضائعهم المتنوعة من بلدانهم وبلدان أخرى ويركزون مبيعاتهم على السياح وأبناء الجاليات وكذلك على الأتراك. والمميز في هذا القطاع الذي وصل حجم التبادل فيه إلى 8.6 مليارات دولار أميركي عام 2014، انّه يضم 25 ألف أرميني برغم العلاقات السيئة بين تركيا وأرمينيا.
من هؤلاء أناهيت سركيسيان (65 عاماً) التي تدير بسطة في منطقة لاليلي في إسطنبول. تقول سركيسيان: "ترمّلت باكراً لكنّي تمكنت من إعالة أبنائي عبر العمل في مصبغة للجلود في العاصمة الأرمينية يريفان، لتتوقف عن العمل في ما بعد ويتدهور الوضع الاقتصادي للبلاد.. لم يكن هناك من يعيلني بعد موت معظم أقاربي في زلزال سبيتاك عام 1988".
تقول سركيسيان إنّها جاءت إلى تركيا "ربما في نهاية التسعينيات.. ومنذ ذلك الحين أرسل المال لأبنائي في أرمينيا". تسكن السيدة مع غيرها من الأرمينيات في بناء متهالك بالقرب من البسطة التي تديرها، وتؤكد أنّها مرتاحة، فلم يزعجها أحد منذ مجيئها إلى إسطنبول. تبيع لزبائنها المنتجات الأرمينية كالقمح والحليب المكثف والجبن واللحوم المجففة، حتى الصودا وبعض أنواع الشوكولاتة والبزر والخبز الأرميني. وتقول: "تعبت في البداية، ولم أكن أعرف اللغة، وكنت أبكي شوقاً لأبنائي، لكنّ بعض الأصدقاء الذين سبقوني إلى العمل في إسطنبول ساعدوني. عملت أولاً في المعامل والمطاعم والتنظيف ورعاية الأطفال، حتى إني بعت الذرة المسلوقة في الشارع، كنت أعمل في كلّ ما يتوفر لي.. لم أخجل من شيء، كلّ هذا من أجل أبنائي".
معظم زبائن سركيسيان من أبناء دول الاتحاد السوفياتي السابق، كالروس والجورجيين والمولداف والأرمن. يرسل لها أبناؤها البضائع. وتقول السيدة التي أتعبها العمر: "لم أعد أستطيع العمل، فتحت هذه البسطة، وأربح في اليوم 15 دولاراً أو نصفها، وأحياناً لا أبيع شيئاً".
تتركز هذه التجارة البسيطة في إسطنبول خصوصاً في بلدية الفاتح بين مناطق لاليلي، وأون كاباني، وعثمان بية، ومجمع أسواق إسطنبول للمانيفاتورة، وزيتن بورنو. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي منيت بها بعد الأزمة في أوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا التي يعتبر مواطنوها أبرز عملاء القطاع، فإن ليبيا وإيران بدأتا بالحلول محل روسيا. كما بدأ السوريون باستئجار الدكاكين والعمل في التجارة الثلاثية كوسطاء ما بين الأتراك والعرب مستفيدين من خبراتهم التجارية العالية واللغة المشتركة.
وبعيداً عن العلاقات السيئة بين تركيا وأرمينيا والتاريخ الدموي، يبدو مواطنو البلدين غير معنيين بذلك، فالكلّ يبحث عن لقمة عيشه. وخط النقل بين إسطنبول ويريفان نشط للغاية، ومعظم الركاب هم من تجار الشنطة، رغم أنّ الطريق تتطلب نحو 34 ساعة من السفر مع اضطرارها للمرور في جورجيا.
وفي هذا الإطار، تؤكد الأرمينية بارين آغوبيان (48 عاماً) أنّها جاءت إلى إسطنبول لأول مرة عام 2004، خصوصاً أنّها انفصلت عن زوجها وعانت آثار الأزمات الاقتصادية الناشئة عن زلزال سبيتاك والحروب المتكررة مع أذربيجان. اضطرت للبحث عن مصدر رزق من أجل تزويج بناتها، وتوجهت في البداية إلى روسيا بحكم معرفتها اللغة الروسية، لكنها لم تستطع البقاء هناك أكثر من سنة، لتعود إلى أرمينيا وتتوجه بعد ذلك إلى تركيا. تقول: "كانت البداية متعبة جدا في إسطنبول، ناهيك عن إذن العمل والفيزا. عملت أول الأمر في التنظيف في مطبخ أحد المطاعم مقابل 400 دولار شهرياً، وأحيانا كنت أنظف المنازل، لكن أموري تحسنت بعد أن بدأت بالتجارة". وتضيف ضاحكة: "لا أتاجر بالمخدرات، أو بالملايين، فحجم تجارتي لا يتجاوز ألف دولار، وهو عبارة عن حقيبتين من البضائع".
تذهب أغوبيان إلى لينينكان في أرمينيا مرة أو مرتين شهرياً. تحمل في حقيبتيها الملابس والمنظفات والأحذية التركية، وتعود ببعض المنتجات الأرمينية. وتقول: "أحمل معي البضائع التي أشتريها من البازارات والدكاكين بالباص لأبيعها في أرمينيا، وعند الحدود لا تسمح السلطات الأرمينية بأكثر من 30 كيلوغراماً من البضائع للشخص الواحد، لكننا نتحايل على الأمر عبر طرق شتى". وتضيف: "أربح في كل رحلة ما بين 300 دولار و400".
اقرأ أيضاً: انفتاحٌ وتزمّت.. حالُ المدارس السورية في تركيا