13 نوفمبر 2024
الأزمة الكوريّة – الأميركيّة.. البحث عن مخرج
فُتح الملف الكوري مجدّداً بإعلان بيونغ يانغ عن إجراء تجربة نووية جديدة، وتجارب على صواريخ بالستية تُطلَق من البر، في لحظةٍ سياسيةٍ دقيقة، فالإدارة الأميركية الجديدة بدأت للتو تدشين فترتها الأولى بتقديم "فرشة" عن تصوراتها ومواقفها حول الملفات المحلية والإقليمية والدولية، وكذلك عن تطلعاتها إلى أدوار محدّدة لحلفائها في الغرب والعالم، إعلان أثار قلق دول حليفة للولايات المتحدة وفزعها، ما استدعى تحركًا أميركيًّا سياسيًّا وعسكريًّا في منطقةٍ ترفض دولها استخدام القوة في معالجة الملف. فما الأسباب الحقيقية وراء هذه الأزمة؟ ولماذا لم تجد لها حلًّا حتى الآن؟ وما مواقف الدول الإقليمية والقوى الدولية منها؟ وهل ثمّة أفق لحلها؟
شكّل البرنامج النووي الكوري نقطة الثقل في النزاع مع الولايات المتحدة، في ضوء تأثيره المباشر في التوازنات في منطقةٍ مهمةٍ لمصالح الأخيرة، وللسلم والاقتصاد العالميين. كانت بيونغ يانغ قد عرضت، في المحادثات المتعدّدة الأطراف (الصين، روسيا الاتحادية، اليابان، كوريا الجنوبية بالإضافة إلى طرفي النزاع: كوريا الشمالية والولايات المتحدة) التي أجريت بدءًا من عام 2004، تعليق البرنامج في مقابل معاهدة عدم اعتداء مع الولايات المتحدة، وبعض المزايا الدبلوماسية والاقتصادية، كشطبها من لائحة الدول المتهمة برعاية الإرهاب، ورفع العقوبات المفروضة عليها. رفضت الولايات المتحدة فكرة معاهدة عدم الاعتداء، وطالبت باستبدال مفاعلات الماء الخفيف بالمفاعلات الحالية، بحيث تنتهي المخاوف من تصنيع أسلحة نووية في كوريا، وعرضت مساعدات اقتصادية (أغذية ووقوداً) مقابل ذلك.
الموقف الكوري الشمالي
يرتكز الموقف الكوري الشمالي في النزاع على عوامل عدة، أولها القوة العسكرية، فكوريا من أكثر دول العالم عسكرة، إذ يناهز عدد قواتها المسلحة 1.2 مليون جندي، و4.5 ملايين قوات
احتياط، مع أن عدد سكانها لا يتجاوز الـ24 مليون نسمة، وهي تمتلك نحو 21 ألف صاروخ باليستي من طرازات رودونغ المختلفة، والتي يراوح مداها بين 300 و5500 كلم، كما تمتلك مخزوناً كبيراً من الأسلحة البيولوجية والكيميائية، قُدر بما بين 2500 و5000 طن، بالإضافة إلى قوة بحرية كبيرة مكونة من قرابة 967 قطعة عسكرية، بينها ثلاث فرقاطات وسفينتان حربيتان و70 غواصة و211 زورقاً لخفر السواحل و23 زورقاً كاسحاً للألغام، وقوات برمائية تتكون من نحو 260 سفينة، بما في ذلك سفن برمائية عالية السرعة، وأسلحة تقليدية: طائرات هجومية، مروحيات، مدرعات، دبابات، أسلحة مضادة للطائرات والدبابات والدروع ناهيك عن قنابل نووية عدة، بحدود 20 رأساً. كانت أعلنت يوم 19/4/2017، نجاحها في تطوير رؤوس نووية خاصة بها، وتحوّلها من دولة ذات قدرة نووية محدودة إلى دولة ذات ترسانة نووية.
باختصار، تستطيع كوريا الشمالية إطلاق مليون قذيفة على كوريا الجنوبية، خصوصًا ضد العاصمة القريبة من الحدود المشتركة، والتي يقطنها حوالي 25 مليون نسمة، خلال ساعة واحدة. كما تستطيع، باستخدام صواريخ رودونغ القصيرة والمتوسطة المدى، عزل شبه الجزيرة الكورية عن العالم، ومنع وصول تعزيزات عسكرية أميركية إلى كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى استهداف اليابان. كذلك يمكنها استخدام الخبرات الصناعية العسكرية الكورية، في مجال الصواريخ خصوصا، في دعم خصوم الولايات المتحدة (بيع هذه التقنية لإيران لمساعدتها في تطوير صواريخ شهاب 3)، وهذا يخل بتوازن القوى في الشرق الأوسط، ويضرّ بأمن إسرائيل، أو لباكستان (صورايخ رودونغ من طراز إم.آر.بي.إم) لدعم موقفها في سباق التسلح مع الهند، والذي يمكن أن يفجر أزماتٍ لا قدرة لواشنطن على السيطرة عليها.
ينطلق النظام الكوري من إحساسه بالخطر، وهذا دفعه إلى التصعيد والدخول في تحدٍّ مباشر مع الولايات المتحدة، في محاولةٍ لإثارة القلق والرعب الإقليمي والدولي من انفجار حربٍ نوويةٍ للدفع إلى تحرّك سياسي، وفتح مفاوضاتٍ للاتفاق على مخرجٍ يلبي تطلعاته السياسية والعسكرية: رفع العقوبات عنه والاحتفاظ بصواريخه وقنابله، والاعتراف به دولةً نوويةً، وإملاء شروطه الأمنية على كوريا الجنوبية، للحدّ من الحماية الأميركية التي تحظى بها، وشروطه المالية والاقتصادية للاستفادة من مواردها الكبيرة.
أثار التصعيد الكلامي بين واشنطن وبيونغ يانغ قلق دول الجوار، كوريا الجنوبية واليابان في شكل خاص، خوفاً من انزلاق الوضع إلى حرب فعلية، في ضوء تقديرهما طبيعة رئيسي الدولتين (دونالد ترامب وكيم جونغ أون) غير القابلة للتنبؤ بردود أفعالها وتصرفاتها، على خلفية تقديراتها الكلفة البشرية والمادية لحربٍ قد تستخدم فيها أسلحة دمار شامل، كيميائي وبيولوجي ونووي، وهذا جعل هذه الدول تتحفظ على اللجوء إلى الخيار العسكري في التعامل مع الملف.
الموقف الأميركي
عبَّرت واشنطن عن رفضها التجارب النووية والصاروخية الكورية الشمالية، واعتبرتها
"استفزازًا" على مستويين، سياسي وعسكري. وَرَدَ الموقف السياسي على لسان نائب الرئيس، مايك بنس، خلال تفقُّده القوات الأميركية المرابطة في كوريا الجنوبية، بجوار الحدود المنزوعة السلاح مع كوريا الشمالية؛ حيث قال "إن الولايات المتحدة لن تتسامح في ما يتعلق بتلك التجارب"، وإعلانه عن التخلي عن "سياسة الصبر الاستراتيجي" التي اعتمدتها الإدارة السابقة، وتأكيده أن هذا البلد يشكِّل "التهديد الأخطر على السلم والأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادي". وعلى لسان وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، في زيارته دولا في شرق آسيا بتحذيره من "أن الولايات المتحدة قد تبحث شنَّ ضربة استباقية على كوريا الشمالية، إذا لم توقف برنامجها النووي". وتهديد الرئيس الأميركي نفسه في تغريداتٍ له على "تويتر" باتخاذ إجراءات أحادية ضد كوريا الشمالية، وتوعد نائب الرئيس بـ"رد ساحق وفعَّال" على أي هجوم قد تشنُّه كوريا الشمالية، وإعلان المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هايلي، يوم 5 يونيو/ حزيران 2017، خلال مناقشة مجلس الأمن التجربة الصاروخية التي أجرتها بيونغ يانغ، أخيرا، على صاروخ عابر للقارات أن بلادها "مستعدّة لاستخدام كامل قدراتها لردع كوريا الشمالية، بما في ذلك القوة العسكرية، إذا اضطررنا لذلك". وتجسّد الموقف العسكري بتسريع عملية نشر شبكة صواريخ "ثاد" المضادة للصواريخ في كوريا الجنوبية، وإرسال مجموعة بحرية هجومية فيها حاملة طائرات يو. إس. إس. كارل فينسون التابعة للأسطول الأميركي الثالث إلى المياه الكورية، وتعزيز قوتها البحرية هناك بإرسال حاملتي الطائرات، رونالد ريغان ونيميتز، إلى بحر اليابان. ورفع درجة الضغط بإطلاق القوات الأميركية والكورية الجنوبية، يوم 5 يوليو/ تموز 2017، صواريخ بالستية خلال مناوراتٍ تحاكي هجومًا على كوريا الشمالية، بالإضافة إلى تحليق القاذفات والمقاتلات الأميركية والكورية الجنوبية بالقرب من الحدود المشتركة مع الشمالية، في "رسالة تحذير قوية" للنظام الكوري الشمالي.
تصريحات وإجراءات عكست جدية واشنطن، وعزمها على التحرّك المباشر ضد كوريا الشمالية، من جهة، وتعزيز ضغطها عليها وعلى الصين في آن، من جهة ثانية، للدخول في مفاوضاتٍ للبحث عن حل مُرض.
تحركت واشنطن على محورين متوازيين، أولًا: تنسيق خطواتها مع حلفائها في المحيط الهادي؛ حيث زار نائب الرئيس، مايك بنس، سنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا وإندونيسيا، وعقدت، يوم 25 إبريل/ نيسان 2017، اجتماعًا ثلاثيًّا على مستوى الخبراء مع كوريا الجنوبية واليابان، لمناقشة "خطط مواجهة أي استفزازات أخرى من كوريا الشمالية، ولزيادة الضغط عليها، وضمان الدور البنَّاء الذي تؤديه الصين في تسوية ملفها النووي". وثانيًا: مع الصين، عبر عملية ترهيب وترغيب؛ حيث سربت معلومات تتعهد فيها بمعاقبة مجموعةٍ من الشركات الصينية التي تيسِّر لكوريا الشمالية عدم الالتزام بعقوبات الأمم المتحدة (يشار هنا بشكل خاص إلى المصارف والبنوك التي تساعد شركات الواجهة الكورية الشمالية في تسهيل نشاطها التجاري الخارجي)، وإطلاق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعدًا بمراعاة المصالح الصينية في التجارة مع الولايات المتحدة، إذا تعاونت الصين في ملف كوريا الشمالية.
موقف الصين وروسيا
ترفض الصين وروسيا استخدام القوة في حل الخلاف، فالصين، الجار الكبير والقوي، والذي
تربطه بكوريا الشمالية اتفاقات سياسية وعسكرية واقتصادية، يخاف من إعطاء النزاع الولايات المتحدة حججاً لتكثيف حضورها على حدوده، ونشر أسلحة متطورة، مثل شبكة صواريخ "ثاد" المضادة للصورايخ التي نصبتها في كوريا الجنوبية، وتحقيق تفوق كاسح في الإقليم، ينعكس سلباً على خططها في بحري الصين الشرقي والجنوبي. كما تتخوف الصين من انهيار كوريا الشمالية، وما سينتج عنه من تدفق ملايين اللاجئين الكوريين إلى أرضها، ووصول القوات الأميركية إلى نهر يالو الذي يفصل بين الكوريتين. وهذا دفعها إلى منع معاقبة كوريا الشمالية بمنع تصدير الوقود إليها بقرار من مجلس الأمن، وإلى إبلاغ الولايات المتحدة بأنها تريد حلاً سياسياً للملف الكوري.
صحيح أن الصين، وكذلك روسيا، لا تريد تصعيد سباق التسلح النووي في الإقليم، خوفاً من دخول اليابان النادي النووي، ولهذا هي مع تجميد البرنامج النووي الكوري، لكنها سعت إلى استثمار الملف الكوري في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من الولايات المتحدة في مقابل مساهمتها في إيجاد حل، وإلى توظيف الملف الكوري في إقناع واشنطن بحدود القوة والسيطرة الأميركية على شؤون العالم.
تخشى روسيا تداعيات التصعيد الإعلامي، واحتمالات تطور الموقف إلى حرب، ما يضعها في موقفٍ حرج، ويدفعها إلى مواجهة خيارات حساسة بين الوقوف في صف كوريا الشمالية والصين، لمنع الولايات المتحدة من السيطرة على الإقليم في شكل كامل (نقلت وسائل إعلام نبأ حشد روسيا قوات كبيرة شرق البلاد بالقرب من حدود كوريا الشمالية، في ضوء تصاعد الموقف هناك)، وبين استعداء الأخيرة، وهي تسعى إلى عقد صفقة شاملة معها، تعيدها إلى موقع القطب الثاني في النظام الدولي، بالإضافة إلى تحسّبها من النتيجة العملية لوقوفها مع كوريا الشمالية والصين، حيث ستصب محصلة صراع الإرادات في مصلحة الصين، لأنها الأقدر جغرافياً ومالياً على التعاطي مع الموقف هناك.
غير أن اعتماد واشنطن على الصين التي تريد حلًّا سياسيًّا للملف الكوري الشمالي، في حل المشكلة، ليس مضمون النتائج، لاعتباراتٍ تتعلق بكوريا الشمالية وبالصين معًا؛ فقيادة كوريا الشمالية قد رسّخت أقدامها من خلال استعراض القوة العسكرية، وحصلت على تنازلاتٍ وامتيازاتٍ فعلية من جيرانها، من خلال امتلاك وسائل ردع نووية محتملة، كما أنها ترى في أسلحتها النووية "بوليصة التأمين الوحيدة على الحياة". وهذا دفعها، في عقد تسعينيات القرن الماضي، إلى مواصلة العمل على برنامجها النووي، على الرغم من كلفته المادية الضخمة، وتجاهل المجاعة التي حصدت أرواح 10% من السكان. في حين ترى بكين في كوريا الشمالية فرصة لتعزيز دورها الإقليمي من خلال لعب دور الضامن للتوازن من جهة، وتوظيف القدرة النووية الكورية الشمالية في التصدّي لمحاولات الاحتواء الأميركية لها من جهة ثانية. وترى للنظام الكوري الشمالي الحالي مهمة حيوية: إبعاد القوات الأميركية المنتشرة في كوريا الجنوبية عن حدودها من جهة ثالثة. وهذا دفع واشنطن إلى الضغط عليها (الصين)، وعلى روسيا، عبر فرض عقوبات اقتصادية عليها؛ فقد فرض وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشين، يوم 6 يوليو/ تموز 2017، عقوبات اقتصادية على شركاتٍ وأفرادٍ في الدولتين، لتعاونهم مع شركات كورية شمالية على علاقةٍ ببرنامجي الصواريخ البالستية والأسلحة النووية، وعقوبات على مصرف "بنك أوف داندونغ" الصيني، ومقره في مدينة داندونغ الصينية الحدودية مع كوريا الشمالية، "يعتبر مصدر قلق من الدرجة الأولى لناحية تبييض الأموال لحساب كوريا الشمالية"، وعمله وسيطًا "لنشاط مالي غير قانوني من جانب كوريا الشمالية"، عبر تسهيل تحويل ملايين الدولارات إلى حساب شركاتٍ تعمل في تطوير صواريخ بالستية. وأخرى ضد مزوّدي برنامج التسلح الكوري الشمالي، ومنها شركتان روسيتان: "أرديس
بيرينغز" ومديرها إيغور ميتشورين، والتي تزود شركة تانغون الكورية الشمالية الخاضعة لعقوبات منذ 2009 لمشاركتها في برامج تسلح بيونغ يانغ بالمعدّات، وشركة بتروليوم كومباني الروسية المستقلة التي سلَّمت نفطًا ومشتقات نفطية بقيمة مليون دولار إلى كوريا الشمالية، وشركة "أو إن إن كي بريمور نفتبروداكت" المتفرعة عنها، وعلى ري سونغ هيوك، المسؤول الصيني في "كوريو بنك"، و"كوريو كريديت دبفلوبمنت بنك"؛ لأنه أنشأ عدة شركات وهمية تزود كوريا الشمالية بمواد، وتُجري تعاملات مالية باسمها". كما فرضت عقوبات على شركات كورية شمالية، هي "كوريا كمبيوتر سنتر"، وهي شركة تكنولوجيا عامة لديها مقار في الخارج، و"سونغي تريدنغ كومباني" التي لديها صلة بالجيش الكوري الشمالي وبتصدير الفحم، وشركة "كوريا زنك إندستريال غروب" التي تصدِّر خام الحديد والزنك. بالإضافة إلى طرحها مشروع قرار في مجلس الأمن، ينطوي على فرض عقوبات دولية على أربعة كيانات كورية شمالية، منها "بنك كوريو" و"قوة الصواريخ الاستراتيجية التابعة للجيش الكوري الشمالي"، إضافة إلى 14 فردًا من بينهم "تشو إل يو" الذي يعتقد أنه يرأس عمليات الاستخبارات الخارجية للبلاد، من المفترض التصويت عليه (مشروع القرار الأميركي) في مجلس الأمن.
خاتمة
رفعت كوريا الشمالية لهجتها، بعد صدور قرار مجلس الأمن الجديد الذي فرض عقوباتٍ اقتصادية قاسية عليها، على خلفية تجاربها صواريخ عابرة للقارات، وجدّدت رفضها إجراء مفاوضاتٍ تحت الشروط الأميركية، شروط تطلب تجميد البرامج النووية والتجارب الصاروخية قبل المفاوضات، على الرغم من المرونة الأميركية التي عكستها تصريحات وزير الخارجية، وإعلانه عدم وجود نية لبلاده لإسقاط النظام الكوري الشمالي.
الحل الأكثر قابلية للتطبيق، وفق خبراء، هو مطالبة كوريا الشمالية بتطبيق سياسة "اللاءات الثلاثة": لا مزيد من التطوير للأسلحة النووية (بما في ذلك التجارب النووية)، لا لتصدير الأسلحة النووية إلى دول أخرى، ولا لاستخدام (أو التهديد باستخدام) الأسلحة النووية. وهذا يستدعي قبول بيونغ يانغ بنظام "التجميد النووي"، وما ينطوي عليه من حدود ضابطة، أحادية الجانب، للحد من التسلح النووي، ونظام مناسب للمراقبة والتحقق، في مقابل حصولها على مجموعة مميزات، منها ترتيبات الضمان الأمني متعدّد الجوانب، والدخول في عملية دبلوماسية، تهدف إلى تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الأخرى، بالإضافة إلى رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية.
ستبقى العيون شاخصةً إلى واشنطن وبيونغ يانغ، تراقب التطورات على أمل احتواء الموقف، والاتفاق على حل سياسي يرضي أطراف النزاع، ويجنِّب العالم ويلات حرب نووية لا تبقي ولا تذر. فهل تنجح مساعي العقلاء في احتواء الأزمة، أم سيشهد العالم حرباً مدمرة باستخدام أسلحة الدمار الشامل؟
شكّل البرنامج النووي الكوري نقطة الثقل في النزاع مع الولايات المتحدة، في ضوء تأثيره المباشر في التوازنات في منطقةٍ مهمةٍ لمصالح الأخيرة، وللسلم والاقتصاد العالميين. كانت بيونغ يانغ قد عرضت، في المحادثات المتعدّدة الأطراف (الصين، روسيا الاتحادية، اليابان، كوريا الجنوبية بالإضافة إلى طرفي النزاع: كوريا الشمالية والولايات المتحدة) التي أجريت بدءًا من عام 2004، تعليق البرنامج في مقابل معاهدة عدم اعتداء مع الولايات المتحدة، وبعض المزايا الدبلوماسية والاقتصادية، كشطبها من لائحة الدول المتهمة برعاية الإرهاب، ورفع العقوبات المفروضة عليها. رفضت الولايات المتحدة فكرة معاهدة عدم الاعتداء، وطالبت باستبدال مفاعلات الماء الخفيف بالمفاعلات الحالية، بحيث تنتهي المخاوف من تصنيع أسلحة نووية في كوريا، وعرضت مساعدات اقتصادية (أغذية ووقوداً) مقابل ذلك.
الموقف الكوري الشمالي
يرتكز الموقف الكوري الشمالي في النزاع على عوامل عدة، أولها القوة العسكرية، فكوريا من أكثر دول العالم عسكرة، إذ يناهز عدد قواتها المسلحة 1.2 مليون جندي، و4.5 ملايين قوات
باختصار، تستطيع كوريا الشمالية إطلاق مليون قذيفة على كوريا الجنوبية، خصوصًا ضد العاصمة القريبة من الحدود المشتركة، والتي يقطنها حوالي 25 مليون نسمة، خلال ساعة واحدة. كما تستطيع، باستخدام صواريخ رودونغ القصيرة والمتوسطة المدى، عزل شبه الجزيرة الكورية عن العالم، ومنع وصول تعزيزات عسكرية أميركية إلى كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى استهداف اليابان. كذلك يمكنها استخدام الخبرات الصناعية العسكرية الكورية، في مجال الصواريخ خصوصا، في دعم خصوم الولايات المتحدة (بيع هذه التقنية لإيران لمساعدتها في تطوير صواريخ شهاب 3)، وهذا يخل بتوازن القوى في الشرق الأوسط، ويضرّ بأمن إسرائيل، أو لباكستان (صورايخ رودونغ من طراز إم.آر.بي.إم) لدعم موقفها في سباق التسلح مع الهند، والذي يمكن أن يفجر أزماتٍ لا قدرة لواشنطن على السيطرة عليها.
ينطلق النظام الكوري من إحساسه بالخطر، وهذا دفعه إلى التصعيد والدخول في تحدٍّ مباشر مع الولايات المتحدة، في محاولةٍ لإثارة القلق والرعب الإقليمي والدولي من انفجار حربٍ نوويةٍ للدفع إلى تحرّك سياسي، وفتح مفاوضاتٍ للاتفاق على مخرجٍ يلبي تطلعاته السياسية والعسكرية: رفع العقوبات عنه والاحتفاظ بصواريخه وقنابله، والاعتراف به دولةً نوويةً، وإملاء شروطه الأمنية على كوريا الجنوبية، للحدّ من الحماية الأميركية التي تحظى بها، وشروطه المالية والاقتصادية للاستفادة من مواردها الكبيرة.
أثار التصعيد الكلامي بين واشنطن وبيونغ يانغ قلق دول الجوار، كوريا الجنوبية واليابان في شكل خاص، خوفاً من انزلاق الوضع إلى حرب فعلية، في ضوء تقديرهما طبيعة رئيسي الدولتين (دونالد ترامب وكيم جونغ أون) غير القابلة للتنبؤ بردود أفعالها وتصرفاتها، على خلفية تقديراتها الكلفة البشرية والمادية لحربٍ قد تستخدم فيها أسلحة دمار شامل، كيميائي وبيولوجي ونووي، وهذا جعل هذه الدول تتحفظ على اللجوء إلى الخيار العسكري في التعامل مع الملف.
الموقف الأميركي
عبَّرت واشنطن عن رفضها التجارب النووية والصاروخية الكورية الشمالية، واعتبرتها
تصريحات وإجراءات عكست جدية واشنطن، وعزمها على التحرّك المباشر ضد كوريا الشمالية، من جهة، وتعزيز ضغطها عليها وعلى الصين في آن، من جهة ثانية، للدخول في مفاوضاتٍ للبحث عن حل مُرض.
تحركت واشنطن على محورين متوازيين، أولًا: تنسيق خطواتها مع حلفائها في المحيط الهادي؛ حيث زار نائب الرئيس، مايك بنس، سنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا وإندونيسيا، وعقدت، يوم 25 إبريل/ نيسان 2017، اجتماعًا ثلاثيًّا على مستوى الخبراء مع كوريا الجنوبية واليابان، لمناقشة "خطط مواجهة أي استفزازات أخرى من كوريا الشمالية، ولزيادة الضغط عليها، وضمان الدور البنَّاء الذي تؤديه الصين في تسوية ملفها النووي". وثانيًا: مع الصين، عبر عملية ترهيب وترغيب؛ حيث سربت معلومات تتعهد فيها بمعاقبة مجموعةٍ من الشركات الصينية التي تيسِّر لكوريا الشمالية عدم الالتزام بعقوبات الأمم المتحدة (يشار هنا بشكل خاص إلى المصارف والبنوك التي تساعد شركات الواجهة الكورية الشمالية في تسهيل نشاطها التجاري الخارجي)، وإطلاق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعدًا بمراعاة المصالح الصينية في التجارة مع الولايات المتحدة، إذا تعاونت الصين في ملف كوريا الشمالية.
موقف الصين وروسيا
ترفض الصين وروسيا استخدام القوة في حل الخلاف، فالصين، الجار الكبير والقوي، والذي
صحيح أن الصين، وكذلك روسيا، لا تريد تصعيد سباق التسلح النووي في الإقليم، خوفاً من دخول اليابان النادي النووي، ولهذا هي مع تجميد البرنامج النووي الكوري، لكنها سعت إلى استثمار الملف الكوري في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من الولايات المتحدة في مقابل مساهمتها في إيجاد حل، وإلى توظيف الملف الكوري في إقناع واشنطن بحدود القوة والسيطرة الأميركية على شؤون العالم.
تخشى روسيا تداعيات التصعيد الإعلامي، واحتمالات تطور الموقف إلى حرب، ما يضعها في موقفٍ حرج، ويدفعها إلى مواجهة خيارات حساسة بين الوقوف في صف كوريا الشمالية والصين، لمنع الولايات المتحدة من السيطرة على الإقليم في شكل كامل (نقلت وسائل إعلام نبأ حشد روسيا قوات كبيرة شرق البلاد بالقرب من حدود كوريا الشمالية، في ضوء تصاعد الموقف هناك)، وبين استعداء الأخيرة، وهي تسعى إلى عقد صفقة شاملة معها، تعيدها إلى موقع القطب الثاني في النظام الدولي، بالإضافة إلى تحسّبها من النتيجة العملية لوقوفها مع كوريا الشمالية والصين، حيث ستصب محصلة صراع الإرادات في مصلحة الصين، لأنها الأقدر جغرافياً ومالياً على التعاطي مع الموقف هناك.
غير أن اعتماد واشنطن على الصين التي تريد حلًّا سياسيًّا للملف الكوري الشمالي، في حل المشكلة، ليس مضمون النتائج، لاعتباراتٍ تتعلق بكوريا الشمالية وبالصين معًا؛ فقيادة كوريا الشمالية قد رسّخت أقدامها من خلال استعراض القوة العسكرية، وحصلت على تنازلاتٍ وامتيازاتٍ فعلية من جيرانها، من خلال امتلاك وسائل ردع نووية محتملة، كما أنها ترى في أسلحتها النووية "بوليصة التأمين الوحيدة على الحياة". وهذا دفعها، في عقد تسعينيات القرن الماضي، إلى مواصلة العمل على برنامجها النووي، على الرغم من كلفته المادية الضخمة، وتجاهل المجاعة التي حصدت أرواح 10% من السكان. في حين ترى بكين في كوريا الشمالية فرصة لتعزيز دورها الإقليمي من خلال لعب دور الضامن للتوازن من جهة، وتوظيف القدرة النووية الكورية الشمالية في التصدّي لمحاولات الاحتواء الأميركية لها من جهة ثانية. وترى للنظام الكوري الشمالي الحالي مهمة حيوية: إبعاد القوات الأميركية المنتشرة في كوريا الجنوبية عن حدودها من جهة ثالثة. وهذا دفع واشنطن إلى الضغط عليها (الصين)، وعلى روسيا، عبر فرض عقوبات اقتصادية عليها؛ فقد فرض وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشين، يوم 6 يوليو/ تموز 2017، عقوبات اقتصادية على شركاتٍ وأفرادٍ في الدولتين، لتعاونهم مع شركات كورية شمالية على علاقةٍ ببرنامجي الصواريخ البالستية والأسلحة النووية، وعقوبات على مصرف "بنك أوف داندونغ" الصيني، ومقره في مدينة داندونغ الصينية الحدودية مع كوريا الشمالية، "يعتبر مصدر قلق من الدرجة الأولى لناحية تبييض الأموال لحساب كوريا الشمالية"، وعمله وسيطًا "لنشاط مالي غير قانوني من جانب كوريا الشمالية"، عبر تسهيل تحويل ملايين الدولارات إلى حساب شركاتٍ تعمل في تطوير صواريخ بالستية. وأخرى ضد مزوّدي برنامج التسلح الكوري الشمالي، ومنها شركتان روسيتان: "أرديس
خاتمة
رفعت كوريا الشمالية لهجتها، بعد صدور قرار مجلس الأمن الجديد الذي فرض عقوباتٍ اقتصادية قاسية عليها، على خلفية تجاربها صواريخ عابرة للقارات، وجدّدت رفضها إجراء مفاوضاتٍ تحت الشروط الأميركية، شروط تطلب تجميد البرامج النووية والتجارب الصاروخية قبل المفاوضات، على الرغم من المرونة الأميركية التي عكستها تصريحات وزير الخارجية، وإعلانه عدم وجود نية لبلاده لإسقاط النظام الكوري الشمالي.
الحل الأكثر قابلية للتطبيق، وفق خبراء، هو مطالبة كوريا الشمالية بتطبيق سياسة "اللاءات الثلاثة": لا مزيد من التطوير للأسلحة النووية (بما في ذلك التجارب النووية)، لا لتصدير الأسلحة النووية إلى دول أخرى، ولا لاستخدام (أو التهديد باستخدام) الأسلحة النووية. وهذا يستدعي قبول بيونغ يانغ بنظام "التجميد النووي"، وما ينطوي عليه من حدود ضابطة، أحادية الجانب، للحد من التسلح النووي، ونظام مناسب للمراقبة والتحقق، في مقابل حصولها على مجموعة مميزات، منها ترتيبات الضمان الأمني متعدّد الجوانب، والدخول في عملية دبلوماسية، تهدف إلى تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الأخرى، بالإضافة إلى رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية.
ستبقى العيون شاخصةً إلى واشنطن وبيونغ يانغ، تراقب التطورات على أمل احتواء الموقف، والاتفاق على حل سياسي يرضي أطراف النزاع، ويجنِّب العالم ويلات حرب نووية لا تبقي ولا تذر. فهل تنجح مساعي العقلاء في احتواء الأزمة، أم سيشهد العالم حرباً مدمرة باستخدام أسلحة الدمار الشامل؟