26 سبتمبر 2018
الأزمة اليونانية.. اختبار لاستدامة نادي اليورو
صعد رئيس الوزراء اليوناني، ألكسيس تسيبراس، مركباً معطوباً، ولم تتوقّف المياه عن التدفق إلى قمراته، على الرغم من محاولات يائسة قامت بها حكومته اليسارية لإنقاذه من الغرق. إنه يجد نفسه، الآن، على مفترق طرق، وجميع الحلول المطروحة أمامه مؤلمة. بدأت الأزمة برفض الحكومة اليونانية تحويل 1.6 مليار يورو لصالح صندوق النقد الدولي، للحصول في المقابل على دفعة مالية عاجلة بقيمة 1.8 مليار يورو كجزء من حزمة قروض مالية، بقيمة 15.5 مليار يورو تنالها اليونان في الأشهر الخمسة المقبلة، وهناك استحقاق آخر لصالح الدائنين، بقيمة 3.5 مليارات يورو بتاريخ 20 يوليو/تموز 2015 والعداد يشير إلى تراكم الديون، بقيمة 42 ألف يورو كل دقيقة، وحال رفض اليونان الخضوع للعبة الأرقام وإرادة صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية، فإنّ إعلان الإفلاس هو البديل المحقّق، وقد تفضّل حكومة تسيبراس تبنّي هذه الخطوة، وليأتِ بعد ذلك الطوفان المتوقع.
تسيبراس على يقين بأنّ البلاد تقع في عين العاصفة مباشرة، سواءً دفعت استحقاقات الدائنين المذكورة، أم أحجمت عن ذلك. لذا، فضّل اللجوء إلى عقد استفتاء شعبي، انتظم أمس الأحد، الخامس من شهر يوليو/تموز الجاري، بانتظار رفض الشعب اليوناني الخضوع لإرادة المؤسسات المالية الدولية، كي لا يتحمل المسؤولية السياسية. ويتمكن، بالتالي، من إنقاذ مستقبله السياسي، والتحضير لمرحلة جديدة صعبة ومرّة، تحمل خطوات عديدة لم تعهدها اليونان والشعب اليوناني حتى اللحظة. وفي الأثناء، يطالب تسيبراس بخطة إنقاذ جديدة، بعد انتهاء المهلة، ويهاجم من على منبر البرلمان الدائنين صائحًا "من العيب إجبارنا على إغلاق بنوكنا لمجرّد إبداء الرغبة بإجراء استفتاء لمعرفة رأي الشعب بشأن مصير البلاد".
واستخدم تسيبراس كلّ المخزون العاطفي الممكن لرجل دولة متمرّس، وصرّح، أكثر من مرّة، أنّه سيفقد زوجته بريستيرا بازيانا، إذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق مشرّف مع الدائنين، لكنّ المعنيين أجابوا أنّ الحديث عن مغادرة اليونان نادي اليورو بات ممكنًا، واستخدموا للمرّة الأولى مصطلح Grexit لاختصار هذا الاستحقاق العقابي الطابع.
تداعيات الأزمة
هناك مساقان لتداعيات الأزمة اليونانية، على الصعيدين، المحلي والدولي. ويمكن للمراقبين الوقوف على التطورات في الداخل اليوناني، برصد حالة الفزع والقلق التي عمّت في أنحاء البلاد. وعلى الرغم من سحب المواطنين معظم مقدّراتهم المالية في المرحلة الأخيرة، إلا أنّ كثيرين يقفون ساعات طويلة للحصول على 60 يورو، وهو الحدّ الأعلى المسموح به لليوم الواحد، وكذا تخزين المواد التموينية، والتوجّه إلى دول الجوار، لفتح حسابات بنكية بديلة، ونقل الأعمال خارج اليونان، للقادرين على ذلك وبيع الفلل والعقارات في الجزر والمدن للشركات الأجنبية ولمواطني المنظومة الأوروبية. وفي المساء، تمتلئ المقاهي مجدّدًا بروادها التقليديين، وعلى وقع موسيقى سرتاكيس، يتأملون مستقبلاً أفضل، وتمكّن البلاد من تجاوز شبح الإفلاس المخيّم عليها، يتأملون كذلك ألا تضطر البلاد لطباعة العملة المحلية الدراخما، والوقوع في وضعية التضخّم المالي، نتيجة عمليات طباعة الأموال من دون أرصدة.
على الصعيد الدولي والأوروبي، لم تُعِرْ المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، رسائل ومبادرات تسيبراس التي تقدّم بها بعد انتهاء المهلة المحدّدة 30 يونيو/حزيران أدنى اهتمام، وردّت باقتضاب "سننتظر نتائج الاستفتاء في اليونان"، وقد يضطر تسيبراس لتقديم استقالته، إذا وافق الشعب اليوناني على شروط الدائنين النهائية، المعروضة في محادثات اللحظة الأخيرة، وأهمّها، رفع أعمار التقاعد حتى 67 عامًا، خفض الرواتب في القطاع العام، رفع قيمة الضريبة المضافة وإلغاء الامتيازات التي تتمتع بها الجزر، وإرغامها على دفع الضرائب لصالح خزينة الدولة، كي تتمكن حكومة تسيبراس من تحقيق فائض مالي، قادر على تحقيق النمو المطلوب في البلاد. دان الزعيم اليوناني واستنكر هذه الشروط، واعتبرها تعجيزية، تهدف إلى معاقبة الشعب اليوناني بأكمله، وستعرقل محاولات بلاده، لتحقيق نمو منشود قادر على إخراج البلاد من أزمته الخانقة. وعلّق تسيبراس قائلا "أوروبا بيت الجميع، لا يجوز أن يكون فيه مالكون وضيوف". هذا الطرح مؤشّر للفهم الاشتراكي للزعيم اليساري، في منظومة تطغى عليها المبادئ الرأسمالية.
وهذه ليست المرة الأولى التي تعقد فيها اليونان استفتاء شعبيًا مصيريًا، فقد عرفت البلاد ستّة استفتاءات في القرن العشرين، واستفتاءً في العام 1832 لانتخاب ملك البلاد، وتناولت خمسة استفتاءات شأن طبيعة الحكم في اليونان أعوام 1920، 1924، 1935، 1946 وفي 1973.
وكان تسيبراس قد تقدّم، قبل أسبوع من نهاية المهلة، بمشروع إصلاحي شامل، اعتُبر بمثابة خطوة جريئة من الدائنين. عمليًا قبلت حكومته بشروط البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية، في مشروع قادر على تحقيق 8 مليارات يورو لخزينة الدولة، أشاد به وزير المالية الهولندي، يرون ديسلبلوم، ويشمل رفع قيمة الضرائب للأثرياء، حتى المعدّل الوسطي في الدول الأوروبية، رفع قيمة ضريبة الدخل للمعدّلات الوسطية في دول المنظومة، فرض رسوم جديدة لقطاع القمار والرهان وصالات الكازينو والرهان عبر الإنترنت. لن تؤثر هذه الخطوات كثيرًا على قطاع العمل الصغير من الناحية العملية. وتطرقت الخطة كذلك إلى رفع قيمة الامتيازات الممنوحة لشركات الاتصالات، أهمها شركة "دويتشي تيليكوم" الألمانية. ودعا مشروع تسيبراس كذلك إلى رفع التزامات أرباب العمل لصالح صندوق الضمانات، لتتمكن الحكومة من تحقيق فائض في خزينة الدولة بنسبة 1% من قيمة الدخل القومي للعام الحالي 2015، 2% للعام المقبل 2016، 3% للعام 2017 وعدم العبث باستحقاقات التقاعد والرواتب المحدودة.
رفضت الثلاثية مبادرة تسيبراس بعد تلكّؤ، وطالبت بعدم رفع الضرائب للأثرياء وقطاع القمار والرهانات، وحذّرت من رفع قيمة امتيازات شركات الاتصال. في المقابل، طالبت برفع قيمة الضرائب لقطاع السياحة البالغة حاليًا 6% لتصبح 23%، هذه الخطوة وحدها قادرة على شلّ القطاع الذي يعتبر أهم مصادر الدخل القومي في اليونان. لذا، لجأ تسيبراس إلى إجراء الاستفتاء الشعبي، مطالبًا شعبه بعدم الخضوع لمطالب الثلاثية.
تجدر الإشارة إلى أنّ جزءًا كبيرًا من الديون اليونانية تراكم بعد انضمام البلاد إلى نادي اليورو، وإلغاء العملة المحلية الدراخما، ما أدّى إلى رفع قيمة العجز التجاري، لأنّ اليونان لا تملك الصلاحية لحفظ قيمة صرف العملة الأوروبية، فهي ليست عملتها الوطنية، كي تتمكن من رفع معدّلات صادراتها، واجتذاب رؤوس الأموال للاستفادة من قيمة صرف منخفضة للدراخما الملغاة، لترتفع بهذا معدّلات ديونها خلال العام الحالي إلى 180% من قيمة الدخل القومي للبلاد، ما يعني، عمليًا، عدم القدرة على إدارة البلاد، وتحقيق فائض مالي، وعرقلة مشاريع التطوير والتنمية والقضاء على القطاع الاجتماعي. لذا، وجب الاستفتاء، وهي أداة ديمقراطية في نهاية المطاف.
خلاف ألماني فرنسي
رفضت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الخضوع للضغوط اليونانية، حتى انعقاد الاستفتاء الشعبي، واليونان هي الدولة الأولى بعد زيمبابوي التي لم تدفع التزاماتها لصالح صندوق النقد الدولي عام 2001. وأرسل تسيبراس رسائل عديدة إلى رؤساء المجموعة الأوروبية واللجنة الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، مؤكّدًا موافقته على تنازلات عديدة، متأمّلا موافقة الدائنين على استمرار خطة الإنقاذ المالية. عمليًا، وافق تسيبراس على كل الشروط الأوروبية التي تمّ التوصل إليها حتى 28 من شهر يونيو/حزيران، مع تعديلات طفيفة، بما في ذلك الإبقاء على امتيازات الجزر اليونانية المتمثلة بمنح خصومات ضرائبية بقيمة 30%. لكن المجموعة الأوروبية رفضت هذه العروض، وفضلت انتظار نتائج الاستفتاء، وكانت اليونان تأمل تراجع البنك الأوروبي المركزي عن قراره تجميد أصول البنوك اليونانية. وصرح وزير المالية الألماني، فولفغانغ شويبلي، إنّ حكومة تسيبراس لا تستحقّ الثقة، واعترف بأنّه لم يطلع على الرسائل والعروض اليونانية المذكورة. وقالت ميركل "أوروبا – مجتمع مبني على تحمل المسؤولية، وإذا نسينا هذه الحقيقة، فإنّ نادي اليورو سينهار ومعه كلّ أوروبا"، ورفضت ميركل الحديث عن خطة إنقاذ ثالثة، بمعزل عن صندوق النقد الدولي، كما يطالب حزب سيريزا.
خلافًا للموقف الألماني، جاء موقف الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، أكثر تفهمًا، فقد دعا إلى التوصّل إلى اتفاق عاجل، لأنّ بقاء اليونان في نادي اليورو لا يعتمد عليها فقط، بل على الاتحاد الأوروبي أيضًا، وأضاف أنّ الوقت ليس مناسبًا لتفجير منطقة اليورو بتصريحات عاصفة غير مسؤولة، بما في ذلك شكوى تسيبراس، واتهامه للاتحاد بالتسبّب بإغلاق البنوك الوطنية في اليونان، والتوقف عن دفع الرواتب ومستحقات التقاعد.
دول أوروبية بلغت حافّة الإفلاس
عدا عن اليونان، بلغت إيرلندا وإسبانيا والبرتغال وقبرص حافّة الإفلاس من قبل، لكنّ المؤسسات المالية الأوروبية وصندوق النقد الدولي تمكّنوا من إنقاذها في اللحظات الأخيرة، وحالوا دون التسبب بكارثة اجتماعية في هذه الدول، يمكن مشاهدة مظاهرها حاليًا في اليونان. تمكنت إيرلندا والبرتغال في الوقت الراهن من إنهاء برامجهما، ولم تضطر إسبانيا لاستنفاد كامل الأموال المخصصة لها، وقبرص باتت مثالا بشأن نجاحها بمعافاة قطاع البنوك لديها. وعلى تسيبراس أن يتعلم درسًا من هذه الدول التي وجدت العون والدعم المطلوب لدى المؤسسات المالية الأوروبية وصندوق النقد الدولي.
توصلت البرتغال إلى صيغة توافق مع المجتمع والقوى السياسية، لتنفيذ عمليات الإصلاح المطلوبة، وحازت بهذا على ثقة الأسواق المالية. تمثلت الخطة بتقديم 79 مليار يورو في العام 2011 من حكومة خوسيه سقراطيش الاشتراكية، وتبنت العمليات الإصلاحية بعدها حكومة بيدرو باسوش، كما تحمّلت كل فئات الشعب حالة التقشف المفروضة، وجاءت النتيجة في العام 2014، حين رفضت البرتغال الدفعة الأخيرة بقيمة 2.6 مليار يورو، وأعلنت خروجها من خطة الإنقاذ متعافية نسبيًا.
تمكنت إيرلندا خلال العام 2014 من تحقيق نمو اقتصادي ملحوظ، وحصلت على قرض مالي بقيمة 68 مليار يورو في العام 2009 مقابل عمليات إصلاح واسعة، لتتمكن خلال 2013 من تنفيذ كامل بنود الاتفاقية، ودفع التزاماتها لصندوق النقد الدولي قبل الفترة المحددة. يعود الفضل الكبير في ذلك إلى ارتفاع حجم الصادرات من الأدوية ومشتقات النفط وغيرها إلى الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، بلجيكيا وألمانيا.
ونوه الخبير الاقتصادي دانييل غروس في مركز بروكسل للدراسات السياسية الأوروبية، في مقال له، إلى ضرورة تركيز الحكومة اليونانية على دعم قطاعات صناعية مجدية، ذات مردود ضرائبي كبير، كما إيرلندا، في وقت تركز فيه اليونان على إعادة تصدير مشتقات النفط بنسبة أرباح لا تزيد على 5%، الأمر الذي لا يدر أرباحاً كثيرة، ولا تملك اليونان عمليًا سوى قطاع السياحة لدعم اقتصادها القومي.
تعرضت قبرص كذلك لهزة كبيرة في قطاع البنوك عام 2013، وحصلت على قرض مالي من صندوق النقد الدولي بقيمة 10 مليارات، واستنفذت، قبل أيام، آخر دفعة بقيمة 278 مليون يورو، بعد أن تمكنت من رفع مستوى النمو الاقتصادي في الجزيرة. وكذا الأمر في إسبانيا التي حققت نموًا اقتصاديًا بنسبة 3.1% خلال العام الحالي.
ويتبين من هذا العرض أنّ اليونان أخطأت حين رفضت خطّة الإنقاذ، وكان عليها شدّ الأحزمة والقيام بعمليات إصلاح على كل الأصعدة سنوات معدودة، لتتمكن من التغلّب على أزمتها الخانقة.
هناك مصطلح آخر تتداوله المؤسسات المالية الأوروبية “Brexit”، وتخشى هذه المؤسسات انحساب بريطانيا من المنظومة الأوروبية، أكثر من خوفها من عملية إفلاس اليونان وخروجها من نادي اليورو، حسب وكالة رويترز. ويقول رئيس معهد التمويل الدولي في فرانكفورت، تيم آدامز، إنّه يخشى انسحاب بريطانيا من المنظومة الأوروبية أكثر بكثير من إمكانية إفلاس اليونان، لأنّ بريطانيا ذات ثقل كبير وأهمية بالغة للاقتصاد الأوروبي والنظام البيئي، والاتحاد الأوروبي يشعر بالقلق بانتظار القرار البريطاني.
ورئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بصدد تقديم رؤيته أمام زملائه في الاتحاد الأوروبي بشأن إعادة النظر بشروط انضمام بلاده للمنظومة، قبل عقد الاستفتاء الشعبي مع نهاية العام 2017. أخذًا بالاعتبار آليات عمل الاتحاد الأوروبي وأدائه، فإنّ خروج اليونان من نادي اليورو سيعمل على عرقلة عمل الاتحاد وهيكليته، بصورة أكثر تأثيرًا ووضوحًا من انسحاب بريطانيا من المنظومة. لكن، على الصعيد المعنوي، يحمل خروج بريطانيا من الاتحاد مخاطر أكبر بشأن مستقبله وبقائه.
يمر الاتحاد الأوروبي بمرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخه الحديث، وعليه أن يتقبّل الأحداث المتسارعة وطريقة تعامل النخبة السياسية في اليونان مع القادة الأوروبيين، وعدم رغبة اليونان، حكومة وشعبًا، قبول الأمر الواقع والخضوع لشروط الثلاثية. وعلى اليونان كذلك أن تستوعب طريقة تفكير رموز الاقتصاد الرأسمالي، والتغلّب على الحنين للواقع الاشتراكي، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة حجم التغيّر الكبير الذي طرأ على المفاهيم الاشتراكية، واقترابها من حيث التطبيق إلى اقتصاد السوق، ولم يعد ممكناً فرض السلطة المركزية في المجال الاقتصادي والسياسي، ولا استثناءات سوى الصين، ذات القرار المركزي، وروسيا التي تتمتع بموارد طاقة هائلة، قادرة على مواجهة العقوبات والصعوبات والأزمات المالية، ولعب دور حيوي على الصعيدين، الدولي والإقليمي. هذه هي شروط الديمقراطية المعاصرة التي أعلنت انتهاء مرحلة التضامن والتكافل، ولم يعد بالإمكان مغادرة المأدبة من دون دفع الفاتورة كاملة.
تسيبراس على يقين بأنّ البلاد تقع في عين العاصفة مباشرة، سواءً دفعت استحقاقات الدائنين المذكورة، أم أحجمت عن ذلك. لذا، فضّل اللجوء إلى عقد استفتاء شعبي، انتظم أمس الأحد، الخامس من شهر يوليو/تموز الجاري، بانتظار رفض الشعب اليوناني الخضوع لإرادة المؤسسات المالية الدولية، كي لا يتحمل المسؤولية السياسية. ويتمكن، بالتالي، من إنقاذ مستقبله السياسي، والتحضير لمرحلة جديدة صعبة ومرّة، تحمل خطوات عديدة لم تعهدها اليونان والشعب اليوناني حتى اللحظة. وفي الأثناء، يطالب تسيبراس بخطة إنقاذ جديدة، بعد انتهاء المهلة، ويهاجم من على منبر البرلمان الدائنين صائحًا "من العيب إجبارنا على إغلاق بنوكنا لمجرّد إبداء الرغبة بإجراء استفتاء لمعرفة رأي الشعب بشأن مصير البلاد".
واستخدم تسيبراس كلّ المخزون العاطفي الممكن لرجل دولة متمرّس، وصرّح، أكثر من مرّة، أنّه سيفقد زوجته بريستيرا بازيانا، إذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق مشرّف مع الدائنين، لكنّ المعنيين أجابوا أنّ الحديث عن مغادرة اليونان نادي اليورو بات ممكنًا، واستخدموا للمرّة الأولى مصطلح Grexit لاختصار هذا الاستحقاق العقابي الطابع.
تداعيات الأزمة
هناك مساقان لتداعيات الأزمة اليونانية، على الصعيدين، المحلي والدولي. ويمكن للمراقبين الوقوف على التطورات في الداخل اليوناني، برصد حالة الفزع والقلق التي عمّت في أنحاء البلاد. وعلى الرغم من سحب المواطنين معظم مقدّراتهم المالية في المرحلة الأخيرة، إلا أنّ كثيرين يقفون ساعات طويلة للحصول على 60 يورو، وهو الحدّ الأعلى المسموح به لليوم الواحد، وكذا تخزين المواد التموينية، والتوجّه إلى دول الجوار، لفتح حسابات بنكية بديلة، ونقل الأعمال خارج اليونان، للقادرين على ذلك وبيع الفلل والعقارات في الجزر والمدن للشركات الأجنبية ولمواطني المنظومة الأوروبية. وفي المساء، تمتلئ المقاهي مجدّدًا بروادها التقليديين، وعلى وقع موسيقى سرتاكيس، يتأملون مستقبلاً أفضل، وتمكّن البلاد من تجاوز شبح الإفلاس المخيّم عليها، يتأملون كذلك ألا تضطر البلاد لطباعة العملة المحلية الدراخما، والوقوع في وضعية التضخّم المالي، نتيجة عمليات طباعة الأموال من دون أرصدة.
على الصعيد الدولي والأوروبي، لم تُعِرْ المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، رسائل ومبادرات تسيبراس التي تقدّم بها بعد انتهاء المهلة المحدّدة 30 يونيو/حزيران أدنى اهتمام، وردّت باقتضاب "سننتظر نتائج الاستفتاء في اليونان"، وقد يضطر تسيبراس لتقديم استقالته، إذا وافق الشعب اليوناني على شروط الدائنين النهائية، المعروضة في محادثات اللحظة الأخيرة، وأهمّها، رفع أعمار التقاعد حتى 67 عامًا، خفض الرواتب في القطاع العام، رفع قيمة الضريبة المضافة وإلغاء الامتيازات التي تتمتع بها الجزر، وإرغامها على دفع الضرائب لصالح خزينة الدولة، كي تتمكن حكومة تسيبراس من تحقيق فائض مالي، قادر على تحقيق النمو المطلوب في البلاد. دان الزعيم اليوناني واستنكر هذه الشروط، واعتبرها تعجيزية، تهدف إلى معاقبة الشعب اليوناني بأكمله، وستعرقل محاولات بلاده، لتحقيق نمو منشود قادر على إخراج البلاد من أزمته الخانقة. وعلّق تسيبراس قائلا "أوروبا بيت الجميع، لا يجوز أن يكون فيه مالكون وضيوف". هذا الطرح مؤشّر للفهم الاشتراكي للزعيم اليساري، في منظومة تطغى عليها المبادئ الرأسمالية.
وهذه ليست المرة الأولى التي تعقد فيها اليونان استفتاء شعبيًا مصيريًا، فقد عرفت البلاد ستّة استفتاءات في القرن العشرين، واستفتاءً في العام 1832 لانتخاب ملك البلاد، وتناولت خمسة استفتاءات شأن طبيعة الحكم في اليونان أعوام 1920، 1924، 1935، 1946 وفي 1973.
وكان تسيبراس قد تقدّم، قبل أسبوع من نهاية المهلة، بمشروع إصلاحي شامل، اعتُبر بمثابة خطوة جريئة من الدائنين. عمليًا قبلت حكومته بشروط البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية، في مشروع قادر على تحقيق 8 مليارات يورو لخزينة الدولة، أشاد به وزير المالية الهولندي، يرون ديسلبلوم، ويشمل رفع قيمة الضرائب للأثرياء، حتى المعدّل الوسطي في الدول الأوروبية، رفع قيمة ضريبة الدخل للمعدّلات الوسطية في دول المنظومة، فرض رسوم جديدة لقطاع القمار والرهان وصالات الكازينو والرهان عبر الإنترنت. لن تؤثر هذه الخطوات كثيرًا على قطاع العمل الصغير من الناحية العملية. وتطرقت الخطة كذلك إلى رفع قيمة الامتيازات الممنوحة لشركات الاتصالات، أهمها شركة "دويتشي تيليكوم" الألمانية. ودعا مشروع تسيبراس كذلك إلى رفع التزامات أرباب العمل لصالح صندوق الضمانات، لتتمكن الحكومة من تحقيق فائض في خزينة الدولة بنسبة 1% من قيمة الدخل القومي للعام الحالي 2015، 2% للعام المقبل 2016، 3% للعام 2017 وعدم العبث باستحقاقات التقاعد والرواتب المحدودة.
رفضت الثلاثية مبادرة تسيبراس بعد تلكّؤ، وطالبت بعدم رفع الضرائب للأثرياء وقطاع القمار والرهانات، وحذّرت من رفع قيمة امتيازات شركات الاتصال. في المقابل، طالبت برفع قيمة الضرائب لقطاع السياحة البالغة حاليًا 6% لتصبح 23%، هذه الخطوة وحدها قادرة على شلّ القطاع الذي يعتبر أهم مصادر الدخل القومي في اليونان. لذا، لجأ تسيبراس إلى إجراء الاستفتاء الشعبي، مطالبًا شعبه بعدم الخضوع لمطالب الثلاثية.
تجدر الإشارة إلى أنّ جزءًا كبيرًا من الديون اليونانية تراكم بعد انضمام البلاد إلى نادي اليورو، وإلغاء العملة المحلية الدراخما، ما أدّى إلى رفع قيمة العجز التجاري، لأنّ اليونان لا تملك الصلاحية لحفظ قيمة صرف العملة الأوروبية، فهي ليست عملتها الوطنية، كي تتمكن من رفع معدّلات صادراتها، واجتذاب رؤوس الأموال للاستفادة من قيمة صرف منخفضة للدراخما الملغاة، لترتفع بهذا معدّلات ديونها خلال العام الحالي إلى 180% من قيمة الدخل القومي للبلاد، ما يعني، عمليًا، عدم القدرة على إدارة البلاد، وتحقيق فائض مالي، وعرقلة مشاريع التطوير والتنمية والقضاء على القطاع الاجتماعي. لذا، وجب الاستفتاء، وهي أداة ديمقراطية في نهاية المطاف.
خلاف ألماني فرنسي
رفضت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الخضوع للضغوط اليونانية، حتى انعقاد الاستفتاء الشعبي، واليونان هي الدولة الأولى بعد زيمبابوي التي لم تدفع التزاماتها لصالح صندوق النقد الدولي عام 2001. وأرسل تسيبراس رسائل عديدة إلى رؤساء المجموعة الأوروبية واللجنة الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، مؤكّدًا موافقته على تنازلات عديدة، متأمّلا موافقة الدائنين على استمرار خطة الإنقاذ المالية. عمليًا، وافق تسيبراس على كل الشروط الأوروبية التي تمّ التوصل إليها حتى 28 من شهر يونيو/حزيران، مع تعديلات طفيفة، بما في ذلك الإبقاء على امتيازات الجزر اليونانية المتمثلة بمنح خصومات ضرائبية بقيمة 30%. لكن المجموعة الأوروبية رفضت هذه العروض، وفضلت انتظار نتائج الاستفتاء، وكانت اليونان تأمل تراجع البنك الأوروبي المركزي عن قراره تجميد أصول البنوك اليونانية. وصرح وزير المالية الألماني، فولفغانغ شويبلي، إنّ حكومة تسيبراس لا تستحقّ الثقة، واعترف بأنّه لم يطلع على الرسائل والعروض اليونانية المذكورة. وقالت ميركل "أوروبا – مجتمع مبني على تحمل المسؤولية، وإذا نسينا هذه الحقيقة، فإنّ نادي اليورو سينهار ومعه كلّ أوروبا"، ورفضت ميركل الحديث عن خطة إنقاذ ثالثة، بمعزل عن صندوق النقد الدولي، كما يطالب حزب سيريزا.
خلافًا للموقف الألماني، جاء موقف الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، أكثر تفهمًا، فقد دعا إلى التوصّل إلى اتفاق عاجل، لأنّ بقاء اليونان في نادي اليورو لا يعتمد عليها فقط، بل على الاتحاد الأوروبي أيضًا، وأضاف أنّ الوقت ليس مناسبًا لتفجير منطقة اليورو بتصريحات عاصفة غير مسؤولة، بما في ذلك شكوى تسيبراس، واتهامه للاتحاد بالتسبّب بإغلاق البنوك الوطنية في اليونان، والتوقف عن دفع الرواتب ومستحقات التقاعد.
دول أوروبية بلغت حافّة الإفلاس
عدا عن اليونان، بلغت إيرلندا وإسبانيا والبرتغال وقبرص حافّة الإفلاس من قبل، لكنّ المؤسسات المالية الأوروبية وصندوق النقد الدولي تمكّنوا من إنقاذها في اللحظات الأخيرة، وحالوا دون التسبب بكارثة اجتماعية في هذه الدول، يمكن مشاهدة مظاهرها حاليًا في اليونان. تمكنت إيرلندا والبرتغال في الوقت الراهن من إنهاء برامجهما، ولم تضطر إسبانيا لاستنفاد كامل الأموال المخصصة لها، وقبرص باتت مثالا بشأن نجاحها بمعافاة قطاع البنوك لديها. وعلى تسيبراس أن يتعلم درسًا من هذه الدول التي وجدت العون والدعم المطلوب لدى المؤسسات المالية الأوروبية وصندوق النقد الدولي.
توصلت البرتغال إلى صيغة توافق مع المجتمع والقوى السياسية، لتنفيذ عمليات الإصلاح المطلوبة، وحازت بهذا على ثقة الأسواق المالية. تمثلت الخطة بتقديم 79 مليار يورو في العام 2011 من حكومة خوسيه سقراطيش الاشتراكية، وتبنت العمليات الإصلاحية بعدها حكومة بيدرو باسوش، كما تحمّلت كل فئات الشعب حالة التقشف المفروضة، وجاءت النتيجة في العام 2014، حين رفضت البرتغال الدفعة الأخيرة بقيمة 2.6 مليار يورو، وأعلنت خروجها من خطة الإنقاذ متعافية نسبيًا.
تمكنت إيرلندا خلال العام 2014 من تحقيق نمو اقتصادي ملحوظ، وحصلت على قرض مالي بقيمة 68 مليار يورو في العام 2009 مقابل عمليات إصلاح واسعة، لتتمكن خلال 2013 من تنفيذ كامل بنود الاتفاقية، ودفع التزاماتها لصندوق النقد الدولي قبل الفترة المحددة. يعود الفضل الكبير في ذلك إلى ارتفاع حجم الصادرات من الأدوية ومشتقات النفط وغيرها إلى الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، بلجيكيا وألمانيا.
ونوه الخبير الاقتصادي دانييل غروس في مركز بروكسل للدراسات السياسية الأوروبية، في مقال له، إلى ضرورة تركيز الحكومة اليونانية على دعم قطاعات صناعية مجدية، ذات مردود ضرائبي كبير، كما إيرلندا، في وقت تركز فيه اليونان على إعادة تصدير مشتقات النفط بنسبة أرباح لا تزيد على 5%، الأمر الذي لا يدر أرباحاً كثيرة، ولا تملك اليونان عمليًا سوى قطاع السياحة لدعم اقتصادها القومي.
تعرضت قبرص كذلك لهزة كبيرة في قطاع البنوك عام 2013، وحصلت على قرض مالي من صندوق النقد الدولي بقيمة 10 مليارات، واستنفذت، قبل أيام، آخر دفعة بقيمة 278 مليون يورو، بعد أن تمكنت من رفع مستوى النمو الاقتصادي في الجزيرة. وكذا الأمر في إسبانيا التي حققت نموًا اقتصاديًا بنسبة 3.1% خلال العام الحالي.
ويتبين من هذا العرض أنّ اليونان أخطأت حين رفضت خطّة الإنقاذ، وكان عليها شدّ الأحزمة والقيام بعمليات إصلاح على كل الأصعدة سنوات معدودة، لتتمكن من التغلّب على أزمتها الخانقة.
هناك مصطلح آخر تتداوله المؤسسات المالية الأوروبية “Brexit”، وتخشى هذه المؤسسات انحساب بريطانيا من المنظومة الأوروبية، أكثر من خوفها من عملية إفلاس اليونان وخروجها من نادي اليورو، حسب وكالة رويترز. ويقول رئيس معهد التمويل الدولي في فرانكفورت، تيم آدامز، إنّه يخشى انسحاب بريطانيا من المنظومة الأوروبية أكثر بكثير من إمكانية إفلاس اليونان، لأنّ بريطانيا ذات ثقل كبير وأهمية بالغة للاقتصاد الأوروبي والنظام البيئي، والاتحاد الأوروبي يشعر بالقلق بانتظار القرار البريطاني.
ورئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بصدد تقديم رؤيته أمام زملائه في الاتحاد الأوروبي بشأن إعادة النظر بشروط انضمام بلاده للمنظومة، قبل عقد الاستفتاء الشعبي مع نهاية العام 2017. أخذًا بالاعتبار آليات عمل الاتحاد الأوروبي وأدائه، فإنّ خروج اليونان من نادي اليورو سيعمل على عرقلة عمل الاتحاد وهيكليته، بصورة أكثر تأثيرًا ووضوحًا من انسحاب بريطانيا من المنظومة. لكن، على الصعيد المعنوي، يحمل خروج بريطانيا من الاتحاد مخاطر أكبر بشأن مستقبله وبقائه.
يمر الاتحاد الأوروبي بمرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخه الحديث، وعليه أن يتقبّل الأحداث المتسارعة وطريقة تعامل النخبة السياسية في اليونان مع القادة الأوروبيين، وعدم رغبة اليونان، حكومة وشعبًا، قبول الأمر الواقع والخضوع لشروط الثلاثية. وعلى اليونان كذلك أن تستوعب طريقة تفكير رموز الاقتصاد الرأسمالي، والتغلّب على الحنين للواقع الاشتراكي، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة حجم التغيّر الكبير الذي طرأ على المفاهيم الاشتراكية، واقترابها من حيث التطبيق إلى اقتصاد السوق، ولم يعد ممكناً فرض السلطة المركزية في المجال الاقتصادي والسياسي، ولا استثناءات سوى الصين، ذات القرار المركزي، وروسيا التي تتمتع بموارد طاقة هائلة، قادرة على مواجهة العقوبات والصعوبات والأزمات المالية، ولعب دور حيوي على الصعيدين، الدولي والإقليمي. هذه هي شروط الديمقراطية المعاصرة التي أعلنت انتهاء مرحلة التضامن والتكافل، ولم يعد بالإمكان مغادرة المأدبة من دون دفع الفاتورة كاملة.