19 أكتوبر 2019
الأنظمة العربية وترامب
لا جدال في أن مفهوم الأمن القومي في العالم العربي ليس بذلك المعنى المتعارف عليه، لا من حيث الممارسة ولا من حيث التنظير (في العلاقات الدولية)، لأنه اختزل، في المنطقة العربية، في أمن الأنظمة الحاكمة التي اختزلت أمن الدولة في أمن النظام: العائلة الحاكمة في الدول ذات الأنظمة الملكية، والأقلية الاستراتيجية (التي قد تكون طائفية أو عرقية أو جهوية، أو خليطاً منها) في الأنظمة الجمهورية. تحوّل بعض هذه الجمهوريات إلى ملكياتٍ هجينةٍ مع الرئاسة على مدى الحياة أو توريث السلطة، وإنْ كانت سورية النموذج الوحيد "الناجح" في الحالة الأخيرة، فيما أُجهضت محاولتان في مهدهما، في كل من مصر واليمن. والقول باختزال الأمن القومي في أمن الجماعة الحاكمة يعني أنه، في حال ضغط خارجي، تفضّل الجماعة الحاكمة التنازل عن مصالح عليا للوطن، لأجل البقاء في الحكم، خصوصاً أنه لولا الدعم الخارجي لما بقيت أنظمة عديدة جاثمةً على صدور مواطنيها طويلاً.
وبما أن البقاء في الحكم طويلاً في العالم العربي مرتبط أساساً بالدعم الخارجي، فإن الأنظمة العربية أصبحت، منذ نهاية الحرب الباردة، تترقب متخوفةً ومتوجسةً نتائج الانتخابات الأميركية، متمنية دائماً أن يختار الشعب الأميركي (على عكس شعوبها التي لا يحق لها أن تختار من يحكمها) رئيساً غير مهتم بمسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان والاعتبارات الأخلاقية عمومياً، حتى لا يقضّ مضجعها، بل ويساعدها في تدعيم تسلطيّتها. وقد تنفست الأنظمة العربية الصعداء بوصول دونالد ترامب إلى الحكم، لأنه لا يعير أهمية تُذكر للمسائل الديمقراطية، لكن احتمالات الانقلاب واردة، خصوصاً أن الرجل متقلب المزاج، بشكلٍ غير معهود في السياسة الأميركية.
إلى حد الآن، لم ينقلب ترامب على هذه الأنظمة العربية، كما فعل بوش الإبن الذي حاول، بعد غزوه العراق، إعادة هيكلة المنطقة، وإصلاحها بإدخال الديمقراطية ضمن ما عُرف آنذاك
بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وبالطبع وفقاً لمعايير المصالح الأميركية. أثار موضوع الإصلاح حينها حالة استنفارٍ في الأنظمة العربية التي رفضت المشروع الأميركي، بدعوى أنها لم تنتظره، حتى تشرع في إصلاحات داخلية، وأنه لا يمكن للإصلاحات أن تُفرض من الخارج، آملةً أن تمر العاصفة بسلام. وهذا ما تم فعلاً، ليس بفضل مقاومتها الضغوط الأميركية، وإنما بسبب المصالح الأميركية، فالإدارة الأميركية سرعان ما فهمت معضلتها: فهي تريد تغيير أنظمةٍ هي بحاجة إليها في ما تسمّيه "الحرب على الإرهاب". هكذا كانت الأخيرة مخرجاً استراتيجياً لأنظمةٍ عربيةٍ تتقن اللعبة الأمنية بامتياز.
سرعة الأنظمة العربية، إن لم نقل تسرّعها، في تهنئة ترامب بانتخابه رئيساً للولايات المتحدة، على الرغم من عدائه الواضح للعرب والمسلمين، دلالة، مرة أخرى، على أن أمن الأنظمة يعلو على أمن الدول والشعوب، فمن التقاليد الدبلوماسية التأخر في تقديم التهاني، وخفض مستوى زيارة رسمية أو مشاركة في مؤتمر ما، للتعبير عند عدم الرضا. لكنها لم تفعل.. وساد الاعتقاد أنها لن تواجه صعوباتٍ مع ترامب. بيد أن الرجل متقلب المزاج، ومن الصعب التنبؤ بسلوكه وتطوراته، ثم إن سياسته الإقليمية والدولية كان ولا بد أن تؤثر على الأنظمة العربية التي اعتقدت أنها في مأمنٍ من الضغوط من أجل الديمقراطية. نلاحظ هنا كيف أصبحت الأخيرة بوصلة لسلوكها، بسبب هاجس البقاء في الحكم. وإن كانت قد أطمأنت من هذا الجانب، بعد إجهاض الانتفاضات الديمقراطية العربية، باستثناء الانتفاضة التونسية، والاضطرابات الأمنية الذي تبعتها في أكثر من بلد.
لكن الرياح المزاجية لترامب تجري بما لا تشتهي السفن التسلطية للأنظمة العربية. ولنكتفي هنا بمثالين. أولاً، نقل ترامب السفارة الأميركية إلى القدس، واضعاً الأنظمة العربية في وضع لا تُحسد عليه أمام شعوبها، وإن كانت الأخيرة لم يعد، ومنذ مدة، يُنتظر منها شيءٌ يُذكر. ولما تشجعت الأنظمة العربية محاولةً تجاوز خطاب الشجب، وصوتت ضد قرار نقل السفارة إلى القدس، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عرَّضت نفسها لرد فعل أميركي، تمثل في قرار ترامب، في نهاية العام الماضي، تعليق بعض المساعدات الأميركية للدول العربية. ولسان حاله: كيف بأنظمة تستفيد من الكرم (المساعدات) الأميركي أن تصوّت ضد قراره.
أما المثال الثاني فيخص مطالبة ترامب، بلهجة حادة، دول أوبك تخفيض أسعار النفط، مندّداً
بالدول العربية الحليفة لأميركا، والتي تضمن الأخيرة أمنها منذ مدة. جاء هذا التصريح تحسّباً لدخول العقوبات الأميركية ضد إيران حيز التنفيذ، ما سيتسبب في ارتفاع أسعار الطاقة إلى السوق الدولية. لذا يهدّد ترامب حلفاءه العرب، حتى يدفعوا كلفة القرارات الأحادية الأميركية، سواء كانوا يشاركونه التشخيص السياسي والأمني بشأن إيران أم لا. المطلوب منهم المساهمة اقتصادياً في دعم هذا القرار بتفادي ارتفاعٍ لأسعار النفط والغاز، ما سيضرّ أميركا وحلفاءها الغربيين. إنها محاولة لفرض تقاسم أعباء قرارات سيادية أميركية بالأساس، بغضّ النظر عن التوافق الاستراتيجي بينها وبعض الدول العربية.
المشكلة أن ترامب، على الرغم من تقلب مزاجه وتخبطه في تناقضات، يتصرّف على أساس اعتبار واحد: المصلحة القومية للولايات المتحدة. بالطبع، يفعل ذلك وفقاً لتصوّره لهذه المصلحة، لكنه لا يتحرّك حماية للنظام أو للبقاء في الحكم. أما الأنظمة العربية المدعوّة لتقاسم العبء الاقتصادي لقرارات وطنية أميركية، فهي ستتصرّف حماية لمصالحها على حساب مصالح دولها وشعوبها. وطبعاً شتّان بين هذا وذاك..
وبما أن البقاء في الحكم طويلاً في العالم العربي مرتبط أساساً بالدعم الخارجي، فإن الأنظمة العربية أصبحت، منذ نهاية الحرب الباردة، تترقب متخوفةً ومتوجسةً نتائج الانتخابات الأميركية، متمنية دائماً أن يختار الشعب الأميركي (على عكس شعوبها التي لا يحق لها أن تختار من يحكمها) رئيساً غير مهتم بمسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان والاعتبارات الأخلاقية عمومياً، حتى لا يقضّ مضجعها، بل ويساعدها في تدعيم تسلطيّتها. وقد تنفست الأنظمة العربية الصعداء بوصول دونالد ترامب إلى الحكم، لأنه لا يعير أهمية تُذكر للمسائل الديمقراطية، لكن احتمالات الانقلاب واردة، خصوصاً أن الرجل متقلب المزاج، بشكلٍ غير معهود في السياسة الأميركية.
إلى حد الآن، لم ينقلب ترامب على هذه الأنظمة العربية، كما فعل بوش الإبن الذي حاول، بعد غزوه العراق، إعادة هيكلة المنطقة، وإصلاحها بإدخال الديمقراطية ضمن ما عُرف آنذاك
سرعة الأنظمة العربية، إن لم نقل تسرّعها، في تهنئة ترامب بانتخابه رئيساً للولايات المتحدة، على الرغم من عدائه الواضح للعرب والمسلمين، دلالة، مرة أخرى، على أن أمن الأنظمة يعلو على أمن الدول والشعوب، فمن التقاليد الدبلوماسية التأخر في تقديم التهاني، وخفض مستوى زيارة رسمية أو مشاركة في مؤتمر ما، للتعبير عند عدم الرضا. لكنها لم تفعل.. وساد الاعتقاد أنها لن تواجه صعوباتٍ مع ترامب. بيد أن الرجل متقلب المزاج، ومن الصعب التنبؤ بسلوكه وتطوراته، ثم إن سياسته الإقليمية والدولية كان ولا بد أن تؤثر على الأنظمة العربية التي اعتقدت أنها في مأمنٍ من الضغوط من أجل الديمقراطية. نلاحظ هنا كيف أصبحت الأخيرة بوصلة لسلوكها، بسبب هاجس البقاء في الحكم. وإن كانت قد أطمأنت من هذا الجانب، بعد إجهاض الانتفاضات الديمقراطية العربية، باستثناء الانتفاضة التونسية، والاضطرابات الأمنية الذي تبعتها في أكثر من بلد.
لكن الرياح المزاجية لترامب تجري بما لا تشتهي السفن التسلطية للأنظمة العربية. ولنكتفي هنا بمثالين. أولاً، نقل ترامب السفارة الأميركية إلى القدس، واضعاً الأنظمة العربية في وضع لا تُحسد عليه أمام شعوبها، وإن كانت الأخيرة لم يعد، ومنذ مدة، يُنتظر منها شيءٌ يُذكر. ولما تشجعت الأنظمة العربية محاولةً تجاوز خطاب الشجب، وصوتت ضد قرار نقل السفارة إلى القدس، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عرَّضت نفسها لرد فعل أميركي، تمثل في قرار ترامب، في نهاية العام الماضي، تعليق بعض المساعدات الأميركية للدول العربية. ولسان حاله: كيف بأنظمة تستفيد من الكرم (المساعدات) الأميركي أن تصوّت ضد قراره.
أما المثال الثاني فيخص مطالبة ترامب، بلهجة حادة، دول أوبك تخفيض أسعار النفط، مندّداً
المشكلة أن ترامب، على الرغم من تقلب مزاجه وتخبطه في تناقضات، يتصرّف على أساس اعتبار واحد: المصلحة القومية للولايات المتحدة. بالطبع، يفعل ذلك وفقاً لتصوّره لهذه المصلحة، لكنه لا يتحرّك حماية للنظام أو للبقاء في الحكم. أما الأنظمة العربية المدعوّة لتقاسم العبء الاقتصادي لقرارات وطنية أميركية، فهي ستتصرّف حماية لمصالحها على حساب مصالح دولها وشعوبها. وطبعاً شتّان بين هذا وذاك..