الإثم الأكبر: استخدام قضية عادلة لتبرير الظلم
1.
من أسوأ ما يمكن أن تتعرض له قضيّة عادلة التسليمُ باستحالة تحقيق العدل فيها، وتحوّل القضية ذاتها من مستخدِم للرموز إلى رمز. ويكون تطبيع الظلم، هنا، بصعود فئةٍ تمثل دور الضحية كوظيفة، وتقصي الضحايا العينيين خارج السياق؛ وقد يُدعى الضحايا أحيانا للعب دور "الضحية الحقيقية".
ليس هذا بالضرورة أمرًا ناجمًا عن فعلٍ مقصود، أو واعٍ لذاته، بل نتيجة من تداعيات صعوبة الحالة، وتعثرها (أو تعتيرها بالعامية) سواء أكان التعثر (أو التعتير) ناجماً عن "عوامل موضوعيّة" أم "أسباب ذاتيّة"، بلغة من قرأ كتابا واحداً عن الماركسية، واعتبر نفسه قد ختم الفلسفة.
ومن مظاهر هذا التأبيد والتخليد للقضيّة العادلة، نشوء صناعة القضيّة، والاعتياش منه، وأيضًا ارتباط صعود فئة من الممثلين للقضيّة، المشغولين بالتمثيل، وبالتالي، بالترميز أيضًا، ما ينتج عالمًا مزدهرا موازيًا للعالم البائس. يقوم على صناعة الرموز، ويتضخّم كلما ضمر الواقع. وبالإضافة إلى المناضلين، يفسح هذا العالم، بطبيعته، المجال لدجالين ومشعوذين، يعتاشون على تضخيم معاناة غيرهم للاعتياش منها.
وتتحقّق الإنجازات في ميادين الجوائز العالمية. ويقدّس الناس المعاناة، ويتنافسون في تضخيمها (وكأن المأساة القائمة كما هي غير كافية)، ويعتبرون موقع الضحية حكماً معيارياً، وحين يحتفلون يحتفلون بانتصارات مفترضة. أما في العالم الحقيقي، فيُعاد إنتاج ميزان القوى المختل بين المحتل والواقع تحت الاحتلال، وتساهم صناعة التأبيد والتخليد في هذا الاختلال. وهي عمليّةٌ تغذّي ذاتها، وليس لها من حلٍّ سطحي، إذ يتطلب الأمر تغييرًا جذريًّا في البنى وطرق التفكير. وهذا أمرٌ وارد الحصول مع تغيّر الأجيال، وانسداد أفق الاستراتيجيات القائمة، واعتراف الجميع بانسداده. ولن أفصّل كثيرًا في هذا النوع من الضرر الذي تتعرّض له قضيّة عادلة، فسوف أحتاج إلى الكثير من الوقت، لتفصيل المظاهر المرتبطة بهذه المتلازمة، والظواهر المرتبطة بها، في بنية الشخصيّة السياسيّة، وفي الثقافة السياسيّة، والسلوك الاجتماعي، وغير ذلك من العوائق أمام التحرر الفعلي للمظلومين.
تنجم عن هذه المتلازمة مظاهر معروفة من استخدام القضيّة للتخدير والعلاج النفسي، وأيضًا، لإرضاء نرجسيات على أنواعها، فهذا العالم الافتراضي هو مرتع للنرجسية والمازوخية في آن معًا، وغالباً ما يختلطا. وهي إساءة استخدام، ساذجة أو غير ساذجة، لا مفرَّ منها، كما يبدو، في ظروف معطاة. ويبدو أنّها تلازم تحول عمليّة الرموز والترميز السياسي التعويضي إلى مكونٍ رئيسي في الثقافة السائدة، ويتورط فيها الناس عاطفيًّا ومصلحيًّا. وتبقى المصلحة محتملةً، حين تكون واضحةً، والناس الضالعون فيها لا يأخذون أنفسهم بجدية، أو حين تكون العاطفة جيّاشة، ولا بد لنا من احتمالها رغم الحرج، وذلك لصدق صاحبها. وتقع الكارثة حين يتورط الإنسان عاطفياً في مصلحته، أو مصلحياً في عاطفته.
وتكمن المشكلة الكبرى في أن هذه الأمزجة تتقبل استخدام القضية العادلة، حيث الإثم الحقيقي كامن في ما سوف يأتي ذكره.
2.
يقع الإثم الحقيقي عند استخدام قضية عادلة في خدمة ممارسات ظالمةٍ، لا تمت لها بصلة. هنا، يحصل ضرر فادح، إذ يتعرّض ما تبقى من عناصر قوة القضيّة، وهو عدالتها، إلى أذىً حقيقي. فهي توضع في صدامٍ مصطنعٍ مع نشدان شعوب أخرى العدالة. وهو صدامٌ غير بنيوي و"غير طبيعي"، بل هو صدامٌ مصطنعٌ ناجمٌ عن محاولة تسخير الخطاب بشأن قضيّة عادلة، من قبل قوى ظالمة، لغرض تبرير ظلمها، وذلك بتعليل قتل الناس، أو زجّهم في السجن، أو قصفهم بالقنابل، أو تجريدهم من حقوقهم الإنسانيّة والمواطنيّة، كأنّ هذا كله يجري في خدمة قضيّةٍ عادلة. ولا علاقة بين الأمرين، في الحقيقة، سوى علاقة التناقض. والصحيحُ، نظريًّا وتاريخيًّا، أنّ تحقيق العدالة في مكان يخدم تحقيقها في مكانٍ آخر، مرتبط به حضارياً وثقافياً. ومن يستخدم قضيّة عادلة في تبرير ظلم شعبه، إنما يمسُّ بعدالة هذه القضية، وينفر الناس منها، ويقلّل من حلفائها، ومقومات انتصارها. والمشكلة أنّ الممارسة، في هذه الحالة، تستخدم الثقافة الناجمة عن الضرر الأوّل، المذكور أعلاه، والذي يُنتِجُ، أيضاً، شخوصاً هشة، قابلة للابتزاز باستخدام الرموز والشعارات.
والأهم من هذا كلّه أنّ الناس العينيين المظلومين يقعون خارج هذه المعادلات تمامًا. فمن يبرّر ظلم شعبٍ، يهمّش هذا الشعب الذي تصبح مطالبه مجرد إزعاج لاحتكار دور الضحية، أو مؤامرة. فمطلب وقف التعذيب، ورفض الاعتقال بدون سبب، ورفض الفساد، تصبح كلها مؤامراتٍ في خدمة محور ضد آخر. والمطلوب أن يقبل الناس صنوف الاضطهاد، ويصمتوا في خدمة النظام الذي يدّعي، بدوره، خدمة قضية عادلة، وهو، في الحقيقة، لا يخدم إلا قضية وجوده في الحكم، والامتيازات المترتبة على ذلك.
وأكثر من ذلك، يمكن لمستخدم القضيّة العادلة، بالهتاف والشعار، أن يدين المظلومين أنفسهم، لأنّهم يقفون ضد الظلم في مكان آخر، فهؤلاء عنده أضاعوا البوصلة، والبوصلة هي احتكار دور الضحية، وتأبيدهم في هذا الدور. ويمكن لمستخدِم قضيتهم أن يقتلهم، وحتى أن يبيدهم، تحت شعار خدمة قضيّتهم العادلة. ولا تلبث أن تنقلب المعايير تمامًا، فيصبح معيار القضيّة العادلة هو الوقوف مع الظلم في مكانٍ آخر. فالخائن المتعاون مع الظلم، في موطن القضيّة العادلة، يصبحُ وطنيًّا إذا وقف مع الظلم المستفيد من استخدامها في بلد آخر. والوطني المناضل الذي عمل، وناضل، وضحّى من أجل القضيّة العادلة، قد يصبحُ "عميلًا خائنًا" ويطعن بشرفه، ومواقفه، إذا اتخذ موقفًا ضد الظلم في البلد الذي يستخدم القضيّة العادلة. هكذا، تنقلب المعايير، ويصبح الظلم هو الخير، والعدل هو الشر. والمشكلة أن هذا الانقلاب في المعايير يجد له من يدافع عنه. هنا، يصل الشر إلى حد العبث. يتوهم وكلاء العبث، والمدافعون عنه، بالفعل أن الدفاع عن الظلم في كل مكان أمر جيد، لأنه لا يحتوي على تناقض، وتحويل كل شيء إلى أداة هو تعبير عن منطق داخليٍّ متماسك، والكذب بشأن القضية العادلة هو في خدمتها كرمز.