الإرهاب وصناعة الفدية
مع تشديد الدول رقابتها على قنوات تمويل الإرهاب، لتجفيف مصادره من جهة، واتساع رقعة المناطق غير الخاضعة لسلطة الدولة في بلدان عديدة، من جهة أخرى، تطورت، في السنوات الأخيرة، ظاهرة اختطاف المدنيين واحتجازهم، وجلّهم من جنسيات غربية، من طرف جماعات إرهابية في منطقة الساحل والمغرب العربي والمشرق العربي. وإذا كانت محاربة الإرهاب محل اتفاق الدول، على الرغم من اختلافها حول تحديد ماهيته، وسبل محاربته، فإن صناعة اختطاف الرهائن واحتجازهم محل خلافات كبيرة بين بعض الدول، بسبب دفع الفدية لتحريرهم.
في بدايتها الأولى، كانت ظاهرة خطف الرهائن واحتجازهم تهدف، بالتحديد، إلى الضغط على دولة، أو دول معينة، لتغيير سياستها حيال أزمةٍ ما، وكثيراً ما يُقتل الرهائن لإجبار الدول على تنفيذ شروط للإفراج عن رهائن آخرين. لكن، مع تنامي ظاهرة الإرهاب العابر للأوطان، والمفتقر لقاعدة جغرافية محددة، بالنظر لترحاله المستمر، تحوّل احتجاز الرهائن من ورقة ضغط سياسية إلى مصدر تمويل أساسي بالنسبة لجماعات إرهابية، كتلك النشطة في منطقة الساحل. فهذه الأخيرة تمتهن حرفة اختطاف وحجز الرهائن، لتحقيق هدف أساسي، هو الحصول على أموال طائلة من خلال الفدية، ولتحقيق هدفين ثانويين، هما الضغط على دول معينة، وإجبار أخرى على تحرير إرهابيين معتقلين، ينتمون إلى هذه الجماعات، أو إلى جماعات قريبة منها.
وربما لم تكن الجماعات الإرهابية تتوقع أن إستراتيجية الفدية ستحقق لها هدفاً سياسياً آخر، في غاية من الأهمية، وهو دق إسفين بين الدول المتفقة والمتعاونة في محاربة الإرهاب إقليمياً وعالمياً. وبالفعل، يثير دفع الفدية للجماعات الإرهابية لتحرير الرهائن خلافات كبيرة بين دول تتعاون، منذ سنوات، في مجال محاربة الإرهاب. وقد انقسمت عموماً هذه الدول إلى فريقين. فريق يرفض الفدية، ويقول بتجريم دفعها باستصدار نص دولي، ولا يرضخ لشروط الإرهابيين، حتى ولو كان المختطفون المحتجزون من مواطنيها. ونجد على رأس هذه الدول الجزائر التي تسعى، منذ سنوات، إلى تجريم الفدية دولياً، وتقول بعدم الإفراج عن الإرهابيين المعتقلين، لأنهم سيواصلون النشاط مع جماعاتهم الإرهابية العابرة للأوطان، ولم تدفع الفدية لتحرير رهائنها (اختطف سبعة من دبلوماسييها في مالي في ربيع 2012 وقتل اثنان، وأفرج عن الباقين). وكذلك بريطانيا التي لا تدفع الفدية. وفريق ثان يقول الشيء نفسه نظرياً، لكنه عملياً يدفع الفدية لتحرير رهائنه، ومن هذه الدول ألمانيا، فرنسا وحتى الولايات المتحدة في وقت من الأوقات، ولكن عبر شركات خاصة، بيد أن الولايات المتحدة غيرت من عقيدتها العملية في هذا المجال، وتقول باستخدام القوة لتحرير الرهائن وعدم التفاوض والرضوخ لمطالب الجماعات الإرهابية.
وبما أن دولاً تدفع الفدية، فهذا يشجع، بحد ذاته، الجماعات الممتهنة للاختطاف، ليس فقط على الاستمرار في نشاطها، بل وتكثيفه، لأنه يعود عليها بأموال طائلة. ومن هذا المنظور، الجماعات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل، تموّل حربها على الدول بأموال هذه الأخيرة. وتكون النتيجة حلقة مفرغة للإرهاب والفدية، ما يجعل العمليات الإرهابية إجرامية، ويفتح الباب أمام أصحاب الجريمة المنظمة لاحتراف الاختطاف والحجز والقتل، إن لم تلبّ مطالبهم.
وفضلاً عن تمويل الإرهاب وتشجيعه، فإن دفع الفدية يطرح إشكالات عدة، فيها فوائد لدول ومصائب لأخرى. فهناك دول ذات نظم غير ديمقراطية، كما الحال في الساحل، تقدم نفسها وسيطاً في المفاوضات للإفراج عن الرهائن الغربيين، بدفع الفدية أو بدونها، مستغلة هذه الوساطة لخدمة مآرب النظام القائم وتلميع صورته، وربما، أيضاً، للحصول على مساعدات مالية أو عسكرية. ومن هنا، فالاختطاف والفدية أصبحا مصدر استرزاق لبعض الفواعل الإقليمية. لكنه مصدر قلق دائم لفواعل إقليمية أخرى، فدفع الفدية يشجع الجماعات الإرهابية على تكثيف نشاطها في هذا المجال، ما يضر بالبلدان التي يُختطف على أراضيها رعايا غربيون مثلاً، وحتى المجاورة لها، لأن هذا يعطي الانطباع، بغض النظر عن الواقع، بأنها غير مستقرة، وبأنها غير متحكمة في أراضيها. كما تصير منكشفة أمام القوى الغربية التي تضغط عليها، لتسير في اتجاه معين. وعليه، فالاختطاف - الاحتجاز الذي يضع الديمقراطيات الغربية في مأزق، لاسيما حيال الرأي العام المحلي، ويجبر بعضها على دفع الفدية لتحرير الرهائن (وتوظيف عملية الإفراج محلياً لخدمة مآرب الحكومات)، يمنحها ورقة ضغط لإجبار دول معينة على الرضوخ لمطالبها التي ترفضها في الأوقات العادية. والحجة، طبعاً، هي دائماً نفسها: يجب محاربة الإرهاب بلا هوادة، والتدخل هنا وهناك... بمعنى الضغط على دول معينة لقبول المناولة الأمنية في مجال مكافحة الإرهاب. وهنا، يكمن التناقض في مقاربة بعض الدول الغربية التي تريد انخراط دول الساحل، مثلاً، بشكل أكبر في محاربة الإرهاب، وفي الوقت نفسه، تجهض عملها. فكثيراً ما تتم مقايضة تحرير الرهائن الغربيين بالإفراج عن إرهابيين معتقلين في دول ساحلية، ما يعني، عملياً، العودة باستراتيجية محاربة الإرهاب تقريباً إلى نقطة الصفر، بإطلاق سراح معتقلين سينشطون مجدداً شبكاتهم. فضلاً عن ذلك، هذا يوحي أن الأنظمة القائمة تضحّي بالأمن القومي في سبيل علاقاتها مع قوى غربية. وهي ذريعة تستخدمها الجماعات الإرهابية، لتبرير جرائمها وتعبئة صفوفها، وهكذا دواليك.
صارت صناعة الفدية رهاناً للنفوذ إقليمياً ودولياً، على الرغم من أنها أصلاً من فعل فواعل دولتية. يشير اختلاف الرؤى بين الدول بشأنها ومحاولة بعضهم منها توظيفها سياسياً لخدمة مصالح معينة، إلى أن الظاهرة مرشحة للتطور مستقبلاً، بسبب هذه البيئة المواتية.