بدا أن الإسلاميين خاصة، منهم الإخوان المسلمون، ومن كان في معسكرهم الداعم لاستمرار محمد مرسي في سدة الحكم، كانوا نهبا في نهاية الأمر للوعي الجمعي الذي شكله الانقلاب عبر أذرعه الإعلامية هنا وهناك؛ والتي نهشت فيهم عشية وضحاها، بداية من النقد الشديد حينما كان محمد مرسي في الحكم، ومرورا بترويج الاتهامات الباطلة والتجريح وانتهاء بالشيطنة.
لم ينجح إعلام الانقلاب في تشكيل الوعي الجمعي للجمهور وتشويه الإخوان والإسلاميين، بسبب كثرة القنوات الإعلامية والمواقع والصحف المنتشرة من قبل رحيل مرسي، وإنما نجحت في قطع شوط كبير في مرحلة التشويه والشيطنة، جراء ما فطن إليه العسكر في باكر الأمر، من تأميم لكافة القنوات المحسوبة على تيار المعارضين للانقلاب من الإسلاميين ومواقعهم وجرائدهم، والتضييق على صحافييهم واعتقال كثير من الأصوات الزاعقة ضد عبد الفتاح السيسي وحاشيته، وهو ما جعل الملعب فارغا تماما لترويج وتشويه الإسلاميين، ومن ثم توافر المناخ المناسب لترويج تلكم الترهات إن لم يكن من الطبيعي تصديقها وترديدها على مسامع الجميع.
زد على ذلك، الرصاصة التي باتت لسان السلطة تجاه الجميع سواء المعارضين أو حتى الساكتين الكاتمين لموقفهم الحقيقي، تجاه العسكر وانقلابهم، فباتت الرصاصة هي الرادع الذي يدفع بقطاع لا بأس به من أصحاب الوعي الجمعي، لإلقاء كافة التهم على الإسلاميين، وترديد ما تريده السلطة بحقهم خوفا من القتل أو التعذيب أو حتى المطاردة.
إلا أنه ومع مرور الوقت وانكشاف جزء من الأزمة واتضاح عجز عبد الفتاح السيسي عن إدارة الدولة، ومع تزايد وتيرة البطش والتزوير والقتل والظلم، وجد الوعي الجمعي نفسه في مأزق إما الاستمرار في تصديق ترهات السلطة وأذرعها الإعلامية، أو البحث عن منافذ أخرى تصب في إعادة تشكيل هذا الوعي الجمعي، وتزويده بما يتسق وفطرته في تقييم الأحداث والتعليق على المظالم القائمة في جنبات الدولة بالكامل.
هرع الوعي الجمعي للجمهور إلى منافذ الجهة الأخرى من معسكر الإسلاميين ومن على شاكلتهم، إلا أن ثمة مأزقاً حقيقياً كان قابعا بين السطور، ملخصه عجز الإسلاميين وخطابهم الإعلامي عن مجاراة الواقع والفشل في تقديم رؤية إعلامية واضحة جاذبة لاعتبارات تنظيمية ومالية وسياسية.
في المقابل تلاشى الدور الحقيقي للإسلاميين وللإخوان في تشكيل الوعي الجمعي للجمهور بعيدا عن الإعلام، سواء داخل المساجد أو الأحياء والأزقة المترامية هنا وهناك، جراء غياب الآلاف منهم داخل السجون، ونبذ المجتمع في بعض أحواله وظروفه للخطاب الديني للإخوان، خاصة وأنه خطاب مكلوم، متشبع بالانتقام والرغبة في البطش بكل الظالمين الذين أذاقوا الإخوان الويلات، بداية من العسكر وانتهاء بكافة المتعاونين معهم في القرى والمدن والمؤسسات الحكومية؛ وهو ما عطل معه أية إنجازات حقيقية كان على الإخوان المضي فيها قدما منذ الوهلة الأولى من رحيل مرسي عن سدة الحكم على يد العسكر وانقلابه.
هنا ومع تزايد الفجوة الاقتصادية في الدولة، وعجز السيسي بوضوح عن تقديم أية ضمانات حقيقية للناس، سوى البطش بمعارضيه وحتى ببعض أركان سلطانه، بات المجتمع في حاجة حقيقية إلى مشروع اجتماعي تنويري يعيد تشكيل الوعي الجمعي لديه مرة أخرى، ويعيد تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، وينتشل الناس من براثن التعسكر إما ما بين داعمين للعسكر دون بصيرة أو أصحاب الخطاب الانتقامي التكفيري الذي يدفع الجميع كلفته عاجلا أو آجلا.
إن تكلفة ترميم لحمة المجتمع، اجتماعيا مرة أخرى أشد وطأة وأقوى أُثرا، بل وتحتاج إلى عشرات السنوات، في ظل عدم جاهزية الجميع لتبني مشروع حقيقي، جوهره إعادة اكتشاف الإنسان من جديد، وتقديس روحه وقيمته وقدرته وكينونته في الحياة، ولملمة ما تبقى من آثار التضامن المجتمعي التي كانت قائمة منذ عشرات السنوات، وتآكلت مع الصراع السياسي وفسطاطات التقسيمات التي شهدتها الثورة على لسان الإسلاميين والليبراليين والعسكر، وغيرهم ممن مروا على يناير وأخواتها.
إن قدرة الإسلاميين على تشكيل الوعي الجمعي للجمهور مرة أخرى ليست بالأمر العسير، خاصة وإن تبدلت القناعات وانضبطت البوصلة تجاه قداسة الوطن والترفع عن صغائر الأمور المفرقة، والتكاتف سويا مع أصحاب المشروعات الوطنية ذات القواسم المشتركة بينهم وغيرهم من أهل الرؤى الفكرية والسياسية الأخرى.
لسنا في حاجة إلى بعث جديد أو إحياء جديد لأفكار قديمة أو حتى حديثة أو إعادة إنشاء كيانات أو تنظيمات أو حركات أو حتى جماعات فكرية أو سياسية جديدة، المجتمع بحاجة إلى خطاب جديد قوامه الرئيس أن الإنسان فوق الدولة، والدولة حافظة لكيان الإنسان، وأن التطرف سواء كان فكريا أو دينيا سيذيق الجميع ويلات الشتات، وأن القاهرة ما عاد لديها متسع من الوقت لخوض تجارب سياسية أو اجتماعية جديدة، فقد أزف الوقت ولا مناص من محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
(مصر)